قضى إبراهيم الجرادي بيننا سبعة وستين عاماً بين عام ولادته 1951 ورحيله، أمس السبت، متنقلاً بين قريته بندر خان غرب تل أبيض، على الحدود السورية التركية، والرقة في شبابه الأول، ثم دمشق، وموسكو، وصنعاء، والعودة من صنعاء إلى دمشق على مرحلتين قبل سنوات.
الرقم وحده شؤم، بإحالته إلى أم النكسات العربية، وبتراجيديته التي لم يأخذ مكانها حصار بيروت 1982، أو ضياع بغداد عام 2003، أو مأساة سورية المستمرة منذ سنوات.
ليس في العالم العربي سياسيون، أو قادة، ليفسروا ذلك الشؤم المقيم، ولماذا تزداد حدة الشؤم كلما ازداد "القادة" إصراراً على المتاجرة بشؤم الجماهير كي يؤبدوا حالة الكرسي المليء. كما قصرت كفاءة المفكرين في العالم العربي عن تفسير ما جرى، أو قصروا في إيجاد الحل للخروج من حالة استمرار الهزيمة على المستوى النفسي على الأقل.
لذلك وقعت المهمة على عاتق الشعراء كي يتواصلوا مع محيطهم ويتوسلوا لأنفسهم ولغيرهم أملاً لم يأتِ. ومن هؤلاء، إبراهيم الجرادي، ولعله صاحب أعمق تجريب شعري بين أبناء جيله من الشعراء السوريين، ابتداءً من عنوان أول مجموعاته "أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة" (1981)، الذي دمج العنوان باسم المؤلف على غير العادة والمألوف.
كما دمج في المجموعة الشكل الحسي البصري باستخدامه الصور في المخرج النهائي للمجموعة، مستفيداً من حاسة البصر في القصيدة، ومستذكراً ربما أنه كان في طريقه لأن يصبح مخرجاً سينمائياً، لولا أنه هجا الأمين العام للحزب الشيوعي السوري، آنذاك، خالد بكداش، وهو في "معهد السينما" في روسيا، فتسبب بكداش في فصله من المعهد، ليختار الجرادي دراسة الأدب المقارن في "معهد كراسنودار".
بدأت ذاكرة الجرادي المعلنة بمأساة مقتل أخيه على خلفية نزاع على حدود أرض زراعية، المأساة التي حملها ندبة في ذاكرته حتى آخر لحظة في حياته. يقول في حوار "طلقتان اثنتان. طلقتان فقط، في ذلك المساء الكئيب، ما زال صداهما يتغلغل في روحي، ويستقر كالكسل في ضلوعي، فيزيد من ألمي وسخطي اللذين لم أستطع التخفف من ثقلهما، رغم مرور نحو خمسين عاماً على الواقعة".
في الرقة، بعد تلك المأساة بسنوات، أسس مع مجموعة من شباب الرقة "جماعة ثورة الحرف" عام 1968، في دلالة مباشرة على محاولتهم تنظيم أنفسهم لتصدير وجودهم خارج حدود الرقة، كمدينة طرفية بعيدة عن النشاط الثقافي للمدن السورية الكبيرة، وكرد مباشر، وفي وقته، على هزيمة 1967 من خلال تطلعهم الأدبي المبكر، وانسجاماً مع موقف الأدباء والمفكرين الرافض للهزيمة في عموم العالم العربي.
أولى قصائده "شطحات البسطامي" نشرها في مجلة "الآداب" البيروتية، والمجلة هي من هي في تاريخ نشر الأدب في العالم العربي، ولذلك غامر الجرادي في شراء كل نسخ العدد التي وصلت إلى الرقة، ليوزعها على أصدقائه.
أيضاً، من علامات النزوع المبكر إلى البحث والتمرد، حوادث سفره المتكرر كل ثلاثة أشهر إلى حلب في باص "الهوب هوب" صباحاً، والعودة مساءً، لشراء العدد الجديد من مجلة "شعر" التي لم تصل يوماً إلى مدينة الرقة في بريد الصحف والمجلات.
يقول الجرادي عن مجمل تجربته الشعرية "لم أرضَ يوماً عمّا أنا عليه. ربما بسبب اليأس واللايقين، واستشراء اللغو الوطني المتستّر على غايات طارئة ورخاوة أخلاقية".
ففي كل تجاربه، وبعد عشرات المجموعات الشعرية، والكتب النقدية، ظلّ الجرادي يسعى إلى القصيدة والنظرية، حتى وصفه نقاد أنه الأكثر تجريباً بين جيل شعراء السبعينيات في سورية، لكنه لم يرضَ عن النتائج، وكان يشعر أن القصيدة لم تكتمل، متنقلاً بين النثري والتفعيلة، في القصيدة الواحدة، أو في مجمل المجموعة الشعرية، عاداً أن شكل ومضمون قصيدته حق من حقوقه كشاعر، في معركة التفعيلة والنثر التي لا يزال غبارها مثاراً في العالم العربي حتى بعد أكثر من سبعين سنة على انطلاق التجربة. بل تصالح الجرادي مع فكرة أن الإيقاع الخارجي إغناء لقصيدة النثر، من دون أن يذم فكرة الإيقاع الداخلي التي يحتج بها العاجزون من شعراء قصيدة النثر عندما يفشلون في المزج بين الإيقاعين.
في مجموعته "دعِ الموتى يدفنون موتاهم" لا يحيل الجرادي إلى مجرد التناص مع مقولة السيد المسيح "اتبعني، ودعِ الموتى يدفنون موتاهم". قد يكون رأى ما سيحدث في سورية، والعالم العربي، مبكراً، في عام صدور المجموعة في عام 2008، لكنه بالتأكيد راكم خبرات القتل والخيبة و(خراب الدورة الدموية) لعالمي الشرق والغرب منذ مقتل هابيل، كرمز، وصولاً إلى ثمانينيات القرن الماضي التاتشرية الريغانية الراعية للدكتاتوريات، مروراً بمأساة مقتل أخيه في الأرض الأولى للجرادي في بندر خان.
يقول "أنا نزلت وتحدثت عمَّا نحب بالأسماء، ولكن من يستطيع أن يتجاهل ما يجري على الساحة العربية؟ إن الظروف التي نعيشها تستدعي من أي إنسان لديه حساسية أن يتخندق، وأن يستثمر هذه الطاقة الجمالية الهائلة، ليزيد من وطأة العار، بجعله علنياً ومفضوحاً"، متحدثاً في هذا الحوار عن الشعر والسياسة والعروبة الإنسانية، لا السياسية التي قسمت الناس إلى شيع ومذاهب ومناطق تستفتي إلى السلاح في حل مشاكلها، وإلى المعتقلات لتكميم الأفواه، وملمحاً إلى الترهيب بين النقد وشعراء الأرصفة في قصيدة النثر التي عندما انتزعت شرعيتها تحولت إلى شكل من السلطة الرهيبة.
ويقول شعراً: "كان عليّ أن أكون واحداً ووحدي/ وأن أقوم كالمسيح عن صليبي/ وأستضيء ضدي/ أغسله/ بالطيب والغفران/ وأعلن البهتان".
وكما لو أنه يتوِّج حزنه، احتفى الجرادي دائماً بالموت، على عادة عموم الشعراء، في تبشيرهم السلبي، وبحثهم عن جماليات الحياة حتى في الموت، معوضاً مفردة الموت بالنوم، أحياناً "لست محظوظاً لكي أغفو على وترٍ وناي"، ومثبتاً مفردة الموت الأصيل في غالب الصور.