قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، لا يقل عن إعلان حرب صريح ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين، وهو بالتالي يضع كل من تعنيهم القدس أمام مسؤولياتهم الوطنية والدينية والتاريخية.
يسلّم ترامب بأن القدس باتت عاصمة أبديّة للكيان الصهيوني، وهذه سابقة، لا تعني فقط القفز فوق كل القرارات الدولية منذ قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في عام 1947، التي تعتبر القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين، وإنّما تثبيتاً للرواية الإسرائيلية التي تنص على أن القدس موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل. وهي الرواية التي لم يعترف بها حتى اليوم سوى الولايات المتحدة، التي وضعت نفسها، من خلال هذه الخطوة، في مرتبة المحتل الإسرائيلي.
نحن أمام موقف أميركي واضح ولا يحتاج إلى تفسيرات وتأويلات، وكل ما جاء من تبريرات واهية على لسان ترامب، ليست له أي قيمة أمام المعنى الفعلي للقرار الذي انتظرته إسرائيل منذ عام 1995، عندما أقرّه الكونغرس الأميركي، وبقي في الأدراج، ولم يقم الرؤساء الأميركيون الثلاثة (بيل كلينتون، جورج بوش الابن، باراك أوباما) الذين سبقوه بالتوقيع عليه وتفعيله، لأنهم يدركون أنّه يتعارض مع القانون الدولي، ويسقط عن الولايات المتحدة دور الوسيط في عملية السلام، ويحولها إلى طرف هو في مصاف المعتدي الإسرائيلي.
صار واضحاً أنّ إدارة ترامب لم تقدم على هذا العمل الذي يقفز فوق حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين لو لم تتلق الضوء الأخضر من بعض العرب، أو على الأقل ضمان صمت بعض الدول العربية، ونحن لا نتحدث هنا في الهواء الطلق، بل عن وقائع وأدلّة ملموسة تخص اتفاقات يجري الحديث عنها منذ زيارة ترامب التاريخية للسعودية في مايو/أيار الماضي تحت عنوان "صفقة القرن" التي تقوم على التطبيع مع الكيان الصهيوني، وسحب السعودية للمبادرة التي قدمتها من أجل السلام مع إسرائيل أمام القمة العربية في بيروت عام 2002.
لا معنى لأن ننتظر اليوم موقفاً من هؤلاء العرب الذين بدأوا يهرولون نحو إسرائيل ولا همّ لهم سوى التطبيع معها، وفي طليعة هؤلاء السعودية والإمارات بإشراف من مصر التي باتت عرابة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولا رهان إلا على الشارع الفلسطيني الذي تحرك قبل أشهر عدّة لإسقاط قرار حكومة نتنياهو لتركيب البوابات الكاشفة في الأقصى، وهذا ينسحب على الشارع العربي الذي يتعرض اليوم لأكبر إهانة في تاريخه. إنها مناسبة ليس للانتصار للحق العربي فقط، وإنّما لاستعادة الاعتبار واحترام الذات العربية التي مرغها بعض المسؤولين العرب الانبطاحيين بالتراب.
ولا يعني ذلك إسقاط المسؤولية عن أحد، فبقدر ما هو مطلوب من السلطة الفلسطينية وقف مسار "أوسلو" نهائياً، يتوجب فضح العرب المهرولين باتجاه إسرائيل، هؤلاء الذين يملأون الإعلام السعودي والإماراتي ضجيجاً منذ أشهر بهدف الترويج للتطبيع مع الصهاينة. ومن دون أدنى شك أنّ عملية التطبيع الجارية والتهاون الحاصل من طرف بعض الدول العربية في ما يخص الحقوق العربية، أغرى ترامب ونتنياهو، وهذا ما كشف عن بعض جوانبه، أمس الأربعاء، وزراء في الحكومة الإسرائيلية، بالتصريح عن اتصالات بين ترامب والعديد من الزعماء العرب قبل إعلان القرار المشؤوم.
الساعة اليوم ساعة فرز بين من يعملون لصفقة قرن يبيعون فيها أرضنا ومقدساتنا وتاريخنا، وبين أهل هذه الأرض الفعليين الذين لا يزالون يدافعون عنها منذ عام 1936 بوجه المشروع الصهيوني الاستيطاني الذي يطمح للهيمنة من الفرات إلى النيل.