القدس على صفيح ساخن

14 مايو 2018
صدام إسرائيلي فلسطيني في القدس أمس (مناحيم كهانا/فرانس برس)
+ الخط -
يوحي المشهد في القدس المحتلة بكثير من التصعيد عشية فعاليات نقل السفارة الأميركية إلى المدينة، والتي تترافق مع أخطار وتحديات كبيرة، سواء ما يتعلّق بتهديد جماعات يهودية باستباحة المسجد الأقصى بالآلاف خلال ما يُعرف بـ"يوم القدس"، أو في ظل تعدي سلطات الاحتلال على قبور المقدسيين في مقبرة باب الرحمة الملاصقة للمسجد الأقصى، ليصح ما يردده الكثير من المقدسيين في مجالسهم الخاصة من أن "القدس على صفيح ساخن"، والوضع الحالي هو "هدوء ما قبل العاصفة".

وأتمّت قوات الاحتلال استعداداتها وتحضيراتها ليوم نقل السفارة الأميركية، إذ بدأت قوات أمنية إسرائيلية بمشاركة أعداد كبيرة من رجال الأمن الأميركيين، اعتباراً من فجر السبت انتشاراً في محيط منطقة واسعة، تبدأ من مركز الفعاليات في الجيب الاستيطاني "أرنونا" المقام على أراضي جبل المكبر، ومن هناك يتفرع الامتداد إلى معظم الأحياء المقدسية جنوب المدينة وحتى تخوم البلدة القديمة، التي بدأ آلاف المستوطنين بالتدفق إليها للمشاركة في احتفالات صاخبة بما يسمونه "يوم القدس"، وللمشاركة أيضاً بأوسع اقتحامات للمسجد الأقصى تلبية لدعوات أطلقتها جماعات يهودية متطرفة.

وفي هذا الإطار، بدأت سلطات الاحتلال بإغلاق محاور عشرات الطرق المؤدية إلى موقع الاحتفال، وتم تعزيزها بعناصر الشرطة والحراسات الأمنية والمراقبة من الجو، ولم يُسمح إلا لطواقم محدودة جداً من الصحافيين الإسرائيليين والأجانب باجتياز تلك الحواجز، في وقت أقامت فيه سلطات الاحتلال مركزاً إعلامياً لأكثر من 300 صحافي في مقر بيت الصحافة الحكومي الإسرائيلي في قرية المالحة المهجّرة على بعد خمسة كيلومترات من مقر السفارة الجديد. كما شملت إجراءات الاحتلال عزلاً تاماً لبلدات صور باهر، جبل المكبر، سلوان، والثوري جنوب البلدة القديمة، ومُنعت المركبات من الخروج من هذه المناطق إلى الشطر الغربي من المدينة، حيث عُززت هناك الإجراءات الأمنية.

اعتقالات وتهديدات
يقول المقدسيون إن هذه الإجراءات الأمنية والعسكرية التي شرعت سلطات الاحتلال بتنفيذها شملت حملة واسعة من الاعتقالات، بدأت يوم الخميس باعتقال عضو المجلس الثوري لحركة "فتح" ورئيس لجنة القدس في المجلس عدنان غيث وزوجته، ثم ما لبثت أن طاولت العشرات من بينهم نشطاء كانوا شاركوا ظهيرة يوم الجمعة بالتصدي لاعتداء سلطات الاحتلال على مقبرة باب الرحمة، على رأسهم الشيخ موسى عودة، وخالد أبو تايه، وخالد الشويكي.
ويشير العشرات من النشطاء المقدسيين ممن لم يُعتقلوا، إلى أنهم تلقوا تهديدات من قبل ضباط استخبارات الاحتلال تحذرهم من تنظيم أية فعاليات احتجاجية ضد نقل السفارة أو القيام بأية تحركات لإحياء الذكرى السبعين للنكبة، سواء بالمشاركة فيها أو التحريض عليها.

وكان مدير عام أوقاف القدس الشيخ عزام الخطيب أكثر وضوحاً في التعبير عن قلقه من التطورات التي قد تحدث عشية إحياء ذكرى النكبة، وتعالي أصوات المستوطنين الداعية لمزيد من الاقتحامات للمسجد الأقصى. وأشار الخطيب في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى تصعيد شرطة الاحتلال إجراءاتها ضد حراس المسجد الأقصى بالاعتقال والإبعاد. وقال: "من الواضح أن إجراءات الاحتلال ضد حراسنا أحدثت خللاً كبيراً في أدائهم لمهامهم المتعلقة بحفظ الأمن والنظام داخل الساحات وعلى بوابات المسجد، إذ لا يمر يوم من دون أن يُستدعى حراس ويُعتقل آخرون، ومن الواضح أن هذا مرتبط بتزايد اقتحامات المستوطنين للأقصى، وهم يهدفون من إجراءاتهم هذه إلى تسهيل تلك الاقتحامات، بينما نحن نعيش أوضاعاً ملتهبة تنذر بمخاطر مواجهة جديدة".

ويرجح مراقبون، ومن بينهم محللون سياسيون ورجال دين، أن يكون الاعتداء الإسرائيلي المستمر على مقبرة باب الرحمة وانتهاك حرمتها، سبباً آخر لاشتعال الأوضاع في القدس، عدا عما تثيره فعاليات نقل السفارة إلى مدينتهم، وتصاعد الاعتداءات على الأقصى من سخط وغضب شديدين.

وفي هذا السياق، أكد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين، في تصريح لـ"العربي الجديد"، مواجهة الإجراء الخاص بنقل السفارة والتصدي له، مؤكداً أن المقدسيين لن يُسلّموا بهذا الظلم الواقع على حقوقهم التاريخية والدينية والوطنية. وأضاف: "على المقدسيين أيضاً التصدي لمحاولات المستوطنين المس بالأقصى والمشاركة الواسعة في إحياء ذكرى النكبة التي تصادف هذا العام مع اعتداء على الأموات وانتهاك حرمة قبورهم".
دعوة الشيخ حسين هذه، ترافقت مع دعوة أطلقها مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين، للمقدسيين إلى الرباط في الأقصى وإعماره يومياً، خصوصاً في شهر رمضان، وتعزيز تواجدهم فيه من أجل حمايته. ووصف المجلس قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس بأنه عدوان جديد يشير إلى الصلف الأميركي، ويمثّل عدواناً صارخاً على الشعب الفلسطيني.

غضب متصاعد
وفي حين ينشغل المقدسيون باستعداداتهم لاستقبال شهر رمضان وسط أجواء من الكآبة والإحباط والشعور بتصاعد السياسات العنصرية ضدهم، ارتباطاً بما يتعرضون له من ملاحقات ضريبية ومداهمات وعدوان مستمر على المقدّسات من قبل سلطات الاحتلال والمستوطنين، فإن وتيرة الغضب لديهم في ارتفاع، سواء باتجاه الاحتلال أو باتجاه الولايات المتحدة الأميركية التي تدعم دولة الاحتلال، على ما يقوله القيادي في حركة "فتح" حاتم عبد القادر، مؤكداً في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن نقل السفارة الأميركية إلى القدس ستكون لها تداعيات كثيرة، خصوصاً لدى الشارع المقدسي، محمّلاً الحكومة الأميركية النتائج المترتبة عن هذا القرار.
ووصف عبد القادر السفارة الأميركية في مقرها الجديد في القدس بـ"المستوطنة" غير الشرعية حسب القانون الدولي، وعلى هذا الأساس سيتم التعامل معها، مضيفاً: "ونحن نحيي الذكرى السبعين للنكبة، ندعو أبناء شعبنا إلى التظاهر والمشاركة في المسيرات السلمية التي ستنظّم في هذه المناسبة والتي سترفع شعارات التمسك بحق العودة، والحفاظ على عروبة المدينة المقدسة وإسلاميتها".


مثل هذه الدعوات وجدت صدى لدى هيئة العمل الوطني في القدس المحتلة، التي دعت المواطنين المقدسيين إلى الاحتجاج على نقل السفارة والمشاركة في فعاليات إحياء ذكرى النكبة، والتصدي أيضاً لاقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى ولمسيراتهم الاستفزازية في البلدة القديمة ومحيطها. وقال مسؤول في الهيئة لـ"العربي الجديد: "علينا أن نرفع صوت القدس عالياً. لن نسمح بأن يصبح وعد ترامب لأعدائنا بشأن القدس وعد بلفور آخر".

وكان رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس الشيخ عكرمة صبري، هدفاً إسرائيلياً مفضّلاً لمزيد من الإجراءات العقابية بحقه باعتباره الصوت العالي المسموع لدى المقدسيين وفي الشارعين الفلسطيني والعربي. وفي هذا الإطار أصدرت سلطات الاحتلال في غضون أسبوعين أمرين عسكريين بحقه، الأول يمنعه من السفر للخارج لمدة أربعة أشهر قابلة للتجديد، والثاني يمنعه من دخول الضفة الغربية لستة أشهر بداعي أنه يشكّل خطراً حقيقياً على أمن دولة الاحتلال.

وأكد الشيخ صبري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن صدور أمرين عسكريين في غضون أسبوع بمنعه من السفر للخارج ومن دخول الضفة الغربية يرتبطان بإجراءات الاحتلال الظالمة التي تحاول النيل من موقفه الرافض بشدة لنقل السفارة إلى القدس ودعواته المستمرة للرباط في الأقصى والدفاع عنه. وقال: "هذان الأمران العسكريان لن يغيّرا من موقفي مهما كان الثمن. نحن ما زلنا على موقفنا الرافض بشدة لنقل سفارة أميركا إلى القدس، ونرى في قرار ترامب عدواناً على حقوقنا التاريخية والدينية، أما الأقصى والدفاع عنه، فنحن ما زلنا على دعوتنا إلى الرباط الدائم فيه والدفاع عنه أمام تغوّل المستوطنين واقتحامهم اليومي للمسجد، كما ندين ونرفض الاعتداء على قبور موتانا في مقبرة باب الرحمة الإسلامية".

في البلدة القديمة من القدس، حيث يتهيأ المقدسيون لاستقبال شهر رمضان، يبدو حال الناس هناك متجهاً إلى استعدادات أخرى، أهمها إحياء مدينتهم باجتذاب المزيد من المواطنين إليها، خصوصاً من أراضي فلسطين المحتلة عام 48، وحتى من الضفة الغربية الذين أعلنت سلطات الاحتلال عن تعليمات جديدة بشأن السماح لهم بدخول القدس وأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى.
ولا يُخفي التجار هناك قلقهم من أن يؤدي تصعيد الاحتلال الحالي المترافق مع نقل السفارة وإحياء ذكرى النكبة، إلى انعكاسات جديدة على أوضاعهم الحياتية اليومية بفعل إجراءات الإغلاق والانتشار العسكري المكثف في محيط القدس وفي أسواقها. ووصف التاجر محمد النتشة الوضع في المدينة بأنه على حافة الانفجار، متوقعاً مزيداً من التضييق على التجار وعلى المواطنين عموماً خلال شهر رمضان، محذراً من أن استمرار اعتداءات المستوطنين على المواطنين ومقدساتهم سيؤدي إلى مواجهة حتمية.

من جهته، قال أحد النشطاء من سكان البلدة القديمة ويدعى محمود أبو ميزر: "مع رفضنا لنقل السفارة واعتبارها عدواناً على حقوق شعبنا، فإن إعمار المدينة المقدسة بالمرابطين في رمضان هو هدف نسعى إليه، لأن وجودهم يعزز صمود الناس ويشكّل رداً على كل المحاولات التي تستهدف عروبة المدينة". أضاف: "على الرغم من حالة الإحباط السائدة، قمنا بتزيين شوارع وأسواق البلدة القديمة بحبال الزينة الرمضانية، وفي بعض الحالات اشتبكنا مع المستوطنين ونحن نعد ذلك ونقوم به كما حدث في باب المجلس، ورسالتنا من كل ذلك أن حضورنا ووجودنا هو ما يحمي القدس ويدعم مواطنيها وتجارها".

تحركات مرتقبة
من جهتها، دعت القوى الوطنية والإسلامية في القدس المحتلة المواطنين المقدسيين إلى أوسع مشاركة في وقفة احتجاجية قبالة السفارة الأميركية تزامناً مع فعاليات افتتاحها، كما دعت التجار إلى إضراب جزئي من الساعة الواحدة تنديداً بالقرار الأميركي.

كما دعا طاقم سكرتيري مركّبات لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في أراضي 48 بعد اجتماع له، إلى أوسع مشاركة في التظاهرة التي ستجري اليوم الإثنين، وهي تظاهرة مناهضة لنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وبالتنسيق والشراكة مع القوى الوطنية والمرجعيات الدينية في القدس المحتلة. كما أكد الطاقم على التعاون والشراكة مع اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، وأثنى على تصريح رئيس اللجنة مازن غنايم، بهذا الشأن. وستجري التظاهرة في حي أرنونا، مقابل مقر السفارة، حيث القنصلية الأميركية حالياً، الساعة الرابعة بعد الظهر، تحت شعار القدس عربية فلسطينية إسلامية مسيحية، ولا لنقل السفارة الأميركية.

ودعا طاقم سكرتيري المركّبات، إلى أن يكون الملتقى عند "مجمع محطة القطارات" في القدس، عند الساعة الثالثة والنصف عصراً، لينطلق المشاركون نحو مقر السفارة. وأكد "ضرورة المشاركة الواسعة في هذه التظاهرة، لتكون الصوت الرافض للسياسة الأميركية العدوانية ضد شعبنا الفلسطيني، في نقطة التماس المباشرة مع القرار العدواني الأميركي".
وكانت القوى والمؤسسات والفعاليات الوطنية في مدينة القدس قد أصدرت بياناً قالت فيه، إن "قضيتنا وقدسنا اليوم، أمام مرحلة مصيرية وخطرة جداً، إذ ستُقدم الإدارة الأميركية المتطرفة على نقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس، بعد إقدام رئيسها المتطرف ترامب على الاعتراف بقدسنا المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال". وأضافت هذه القوى أن "هذه الخطوات المتسارعة والتي تنقل الإدارة الأميركية من الانحياز السافر إلى جانب دولة الاحتلال لمرحلة الشراكة في العدوان المباشر على شعبنا الفلسطيني، فتحت شهية الاحتلال على القيام بسنّ قوانين وتشريعات متطرفة واتخاذ قرارات عنصرية من شأنها التهويد الكامل للمدينة وجعلها عاصمة أبدية لدولة الاحتلال". وقال البيان، إنه "من هذا المنطلق وفي ظل الخطوات والأعمال المتسارعة والتي تتزامن مع الذكرى السبعين لنكبة شعبنا، فإنه يقع علينا في مدينة القدس، أن نكون جزءاً أساسياً من الحراك الشعبي الشامل الذي سيكون ممتداً على طول وعرض فلسطين التاريخية، وهذا يعني أن نعمل على أكبر حشد شعبي وجماهيري في التظاهرة مع إخوتنا وأهلنا من فلسطينيي 48".