أربعة عقود ونصف من الأوهام الصهيونية حول "ضمّ القدس الشرقية" و"تطويع سكّانها" بدّدتها انتفاضة القدس التي بدأت في تموز/ يوليو 2014، وتجدّدت مطلع هذا الشهر في شوارع الحاضرة العربية المحتلة. أوهام كثيرة تبددت، ولعل أولها أن القدس بعيدة جداً عن فلسطين وبشكل خاص عن غزة.
ثمة جريمتا حرق كبيرتان في تاريخ القدس بعد الاحتلال، تركت كلٍّ منهما آثاراً لا تمحى؛ الأولى في 21 آب/ أغسطس 1969 عندما دُبِّر حريق المسجد الأقصى، والثانية في 2 تموز/ يوليو 2014 عندما خطف المستوطنون الطفل الشهيد محمد أبو خضير وقاموا بتعذيبه قبل أن يحرقوه حياً.
ثمة علاقة بين ما جرى في نهاية صيف 1969 وبين ما يجري اليوم؛ تخبّطات الرهان الصهيوني على "تطويع القدس" و"ضمّها" إلى الكيان الاستعماري، و"معالجة السكان العرب" و"احتوائهم بأقل خسائر ممكنة".
إنها سيرة سرقة مدينة تمثّل رمزياً عملية سرقة بلد بأكمله وتزييف اسمه في خريطة العالم، كما تمثّل ساحة لصراع الإرادة بين المستعمِر وبين أهل البلاد.
في هذا العدد من "فلسطين العربي الجديد" إطلالة على القدس من كوة السياسات الاستعمارية الممارسة منذ أربعة عقود ونصف، على المدينة وعلى أهلها. وهي سياسة مرّت بأكثر من طور منذ احتلال النصف الغربي من المدينة بين 1948 و1967 (وهي فترة مغيبة ومسقطة من البحث ولم تنل ما تستحقه من الدراسة)، مروراً بـ"الضم" و"تفحّص الغنيمة" و"تطويع الأهالي" بعد 1967 وهي حقبة تكريس مصطلح "القدس الشرقية" لوصف الجزء المحتل عام 1967 وصك مصطلح "أورشليم القدس"، والتي أربكتها ارتجاجات انتفاضة 1987.
ومن ثم مرحلة هي الأفتك بعد "اتفاقيات أوسلو" 1993، حقبة بناء الحواجز والجدار الإسرائيلي وعزل القدس المحتلة عن محيطها الطبيعي؛ لمنعها من أن تبقى قلباً اجتماعياً واقتصادياً لفلسطين وليس لما يسمى بـ"الضفة الغربية". وفي الوقت نفسه "توسيع حدودها البلدية" لتشمل المستوطنات وإصباغ صفة "الأحياء" عليها، بما يغيّر المعادلة الديموغرافية ويجعل الفلسطينيين أقلية في مدينتهم.
وصولاً إلى اللحظة التي قررت فيها السياسة الإسرائيلية تدمير مفهوم "القدس الشرقية" -الإسرائيلي أصلاً- بعد أن استنفد وظيفته، والدخول في مرحلة ما يسمّى بـ"المدينة المختلطة" أو "المدينة المشتركة" لصالح "القدس الغربية" بالطبع، بحيث لا يبقى حي فلسطيني واحد من دون كتل وخلايا استيطانية مرشحة للتمدّد داخله وعليه.
الرواية لم تتم فصولها كما يقال، والأيام المقبلة ستبدّد مزيداً من الأوهام الصهيونية.. وما كان بديهياً سيظلّ بديهياً.