القتل في زمن اللايقين

23 ديسمبر 2016
+ الخط -
بعيداً عن الجدل السياسي والأخلاقي حول مشهد اغتيال السفير الروسي لدى تركيا، أندريه كارلوف، وهو جدلٌ بات أمراً روتينياً في الفضاء العام العربي، فإن الحادث لا يخلو من دلالاتٍ عديدةٍ، أهمها الصورة الهوليوودية التي وقع بها الحادث، والتي يبدو أنها كانت مقصودة. فالضابط الشاب، مولود ميرت ألطنطاش، الذي نفذ عملية الاغتيال، بدا كما لو كان ممثلاً في فيلم سينمائي، يريد جذب انتباه المشاهدين بالخروج عما هو معتاد. فالمشهد الأصلي كان زيارة غير رسمية، وربما غير مهمة، للسفير الروسي لمعرض فني في أنقرة. وبالتالي، لم يكن هناك اهتمام إعلامي أو رسمي بالمسألة، لكن ما فعله ألطنطاش كان حدثاً فارقاً جذب انتباه العالم خلال دقائق معدودة، وكان الشاب حريصاً على إيصال رسالته، وربط اغتياله للسفير بما يجري في سورية، وخصوصاً في حلب.
ولا يختلف مشهد اغتيال السفير عن مشاهد القتل التي أصبحت تنقل على الهواء مباشرة، سواءً تلك التي تمارسها جماعات وحركات راديكالية متطرّفة، أو من هم متعاطفون معها، على غرار ما حدث في برلين أخيراً أو في باريس وبلجيكا قبل شهور، أو تلك التي تقوم بها الأنظمة الديكتاتورية كما هي الحال في سورية. وبالتالي، نحن إزاء عملية تطبيع سيكولوجي ومرئي مع مسألة القتل، والتي قد تحدث في أي وقت، ومن دون سابق إنذار. تساهم في ذلك سهولة نقل الحدث على الهواء، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات التي تجاوزت حدود الخيال في ربط الحدث بالفضاء المعولم، بل وصل الأمر أحياناً إلى دفع بعضهم إلى القيام بهذه الأفعال، لا لشيء إلا لإرضاء غريزة الانتشار وجذب الانتباه في الفضاء الإلكتروني الذي لا يسيطر عليه أحد.
في الوقت نفسه، يفتح حادث اغتيال السفير الروسي المجال أمام خيالٍ موازٍ واسع، يتجاوز مسألة القتل، فعلاً إجرامياً، إلى الرسائل السياسية التي تقف خلفه، وربما تبرّره من وجهة نظر فاعليه. وهنا مكمن الإشكال الأخلاقي الذي يقع فيه بعضهم، قصداً أو عن جهل. فالقبول بالقتل لغرضٍ سياسي، أياً كان، يعني انتقال التقييم من السياسي إلى الأخلاقي، وجعل هذا الآخر في موقع التابع، وليس العكس، مما يعني اختلال الحكم بحد ذاته، فالقاتل، أياً كانت خلفيته العقائدية والإيديولوجية والدينية، يبحث دائماً عن مسوّغ أخلاقي لفعله غير الأخلاقي، وذلك من أجل إيصال رسالته السياسية، وتحقيق هدفه منها، على عكس ما قد يدّعيه هو، ومن يؤيدونه في فعله.
تحيلنا هذه الإشكالية إلى ما يطرحه المفكر وعالم الاجتماع البولندي، زيغمونت باومان، في سلسلته المثيرة للتأمل والتفكير التي تبدأ بالحداثة السائلة، مروراً بالحياة السائلة، والزمن السائل والخوف السائل. وهي سلسلةٌ من بين أفكارها الرئيسية غياب اليقين وانتقال البشرية إلى مرحلة من المجهول، على عكس كل ما بشّرت به الحداثة وأفكارها ومفكرّوها، والتي انتقلت بالبشرية من الإيمان المطلق بالعقل وملكاته الطبيعية وقدرته على التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، إلى حالةٍ سائلةٍ من الشك وفقدان القدرة على هذا التمييز. ويبدو أننا وصلنا إلى مرحلة ما يسميّه باومان "الإنسان الغريب" غير المستقر، والذي يجري دائماً وراء سراب الحداثة الذي لا ينتهي.
الإيمان المطلق بقدرة الفرد على السيطرة على مشاعره وأحاسيسه، وأن يكون تابعاً لعقله ومنطقه، لم يعد موجوداً، وتنسفه مشاهد ووقائع كثيرة نعيشها يومياً، كان جديدها مشهد "كارلوف وألطنطاش" في أنقرة قبل أيام.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".