القتل... بثّ مباشر

30 سبتمبر 2018
+ الخط -
وصلت الصورة المرئية إلى قمة تأثيرها في الحرب على العراق عام 1991، حين نقلت قناة "سي إن إن" مجريات الحرب بشكل مباشر.
كانت المرّة الأولى، بالنسبة لنا، التي نتابع فيها الحرب على الهواء مباشرة، ولا يصل إلينا الخبر جافاً بعد أسبوع، كأي خبر آخر مثل استقبال الرئيس الوفود الأجنبية وتوديعه لهم! فهل كانت نبوءةً من المطرب فهد يكن أن يغني عام 1982 أغنيته التي لم ينتبه إليها إلا قلة قليلة جداً "انتبهوا جيداً انتبهوا جيداً/ إنّهم يموتون على الهواء مباشرة!".
القوة والتأثير الإعلامي كانا خارقين في ذلك الوقت، حتّى إنّ متابع الحدث الحي يدرك أنّ الحرب إعلامية، بل أحدثها الإعلام بعد الفراغ الاستراتيجي والإيديولوجي في أثناء الحرب الباردة. وقد كان لمراسلي الحرب دور مهم في التأثير المباشر على الرأي العام، حتّى إنّ قائد قوات الأمم المتحدة، روميو دالير، قال يوماً: "يساوي المراسل الصحافي كتيبة على الأرض". لكن تلك القوة لا تحمي المراسل ولا تحصّنه، بل تجعله أكثر عرضةً للموت من المقاتلين.
على أيّ أزمة يريد الإعلام تدويلها أن تخضع لمعايير الإعلام، والمعايير هي الصور والضحايا. كانت النشرات المتلفزة قديماً لا تُحدث أيّ تأثيرٍ لدى المتلقي، فالمذيع يقرأ الخبر الرياضي بالطريقة نفسها التي يعلن فيها عن وقوع زلزال في الصين أو اليابان، ومقتل آلاف الضحايا، وبالطريقة نفسها، يخبرنا أنّ الرئيس احتفل بالعيد، أو أدّى الصلاة في المسجد، أو رافق وفداً ما إلى المناطق المحرّرة أو استقبل رئيس دولة ما!
الصورة هي التي تحدث فرقاً، وقد جاءت لتستقطب عدداً أكبر من المشاهدين، لمتابعة الأخبار.. كانت النقلة الكبيرة في بداية ظهور الفضائيات، فلم نعد نسمع عن القمع في ميانمار، مثلاً، وكأننا نسمع خبراً رياضياً، بل صارت الصورة تثير انفعال المشاهد، وتحثّه على متابعة الحدث.
وكان للبث المباشر الذي قامت به قناة الجزيرة في الحرب على العراق في عام 2003، 
التأثير الأقوى على المشاهدين في الوطن العربي، خصوصا حين أتاحت الفرصة للمشاهدين ليعبّروا عن آرائهم في الحرب وتحليلاتهم لها عبر الاتصال الهاتفي.
وقد قدمت الصحف الألمانية، المختصة بالفضائح منها، صورا للقرّاء تثبت القمع الذي مارسه الصينيون في لهاسا، كما نشرت صورا لقمع تظاهرات بعض الرهبان في نيبال. من شأن الصورة أن تُمركز الحدث في بؤرة واحدة، فتغدو جزءاً يعبر عن الكل، فينتقل الخوف الجزئي، ليصبح خوفاً عاماً.
وبغض النظر عن مدى صحة ما تقدمه الصحف أو التلفاز، فالصورة تؤدي الغرض المرجو منها، وهي دليل دامغ لا يقبل نقاشاً، فحين قمعت الشرطة الإيرانية التظاهرات التي خرجت ضدّ الرئيس السابق، أحمدي نجاد، قدّم التلفزيون الفرنسي صورا للقمع ملتقطة في هندوراس! لا أحد يناقش ذلك أو يتوقف عنده.. هناك قمع، هناك صورة تستقطب المشاهدين، وهناك تأثير إعلامي وحشد للرأي، وهذا هو المطلوب، وإن كان مفبركاً.
تفشّت هذه الظاهرة وتضخمت، بانتشار مواقع التواصل، ونشر الأخبار اليومية للحرب المقترنة بالصورة المؤثرة التي تهدف إلى حشد الآراء مع أو ضد، وظاهرة القص واللصق التي شاعت إلى درجة خلط الأوراق. واستغلت الأنظمة الفكرة، واستخدمتها بذكاء، فصارت تنشر أخباراً كاذبة بأسماء وهمية، تحمل صوراً يكتشف بعضهم أنًها قديمة، أو نشرت من قبل، أو صوراً من فيلم أو صوراً من دول أخرى، لضرب مصداقية الخصم.
وتسعى الصحافة إلى إدانة العنف، خصوصا الإعلام المرئي، ولكن لا تستطيع الصحافة تصوير كلّ الممارسات العنيفة التي تقوم بها قوى التحالف وأميركا، فقد أغلقت مناطق شمال باكستان التي تقصفها الولايات المتحدة في وجه الصحافيين، بينما كانت التغطية كاملة لضحايا الاعتداءات في بيشاور وكراتشي. ولا يطاول المنع أماكن القصف فقط، بل أيضاً ممنوع أن تصور جثث الأميركيين الذين تعرّضوا للقتل من إرهابيين، أو حتى في معارك، وذلك بموجب القانون الأميركي، وحدث ذلك في أحداث "11 سبتمبر"، عندما مُنع تصوير أشلاء الضحايا الأميركان، وانتشر الخبر في الشارع العربي أنّه لم يكن هناك أميركان في البرج، ما أفسح المجال أمام نظرية المؤامرة، لتتصدّر التحليلات والتكهنات، لمعرفة مَن وراء ذلك التفجير الإرهابي.
ويقوم الإعلام بالتلاعب أيضاً بشأن هوية الضحية، ففي أثناء اجتياح صدّام حسين الكويت، قام بعض جنوده "بتعفيش" للحاضنات من مستشفيات الولادة عام 1991، وروت الحادثة فتاة 
كويتية كانت دموعها تغسل وجهها في أثناء جلسةٍ في مجلس الشيوخ الأميركي، وكانت تلك الحادثة كافية لحشد الرأي العام الأميركي ضدّ صدام حسين، واقتناع "الشعب" بصواب قرار الإدارة الأميركية في محاربته. واكتُشف فيما بعد أنّ الشابة هي ابنة السفير الكويتي في الولايات المتحدة، ولم تكن حاضرة في الكويت، لكنّها روت الحادثة بطريقة مؤثرة أكثر مما لو كانت حاضرة! واستطاعت أن تحشد الدعم المعنوي لبلادها، وهو ما لم يستطع حشده القتل البطيء الذي حصل في العراق خلال عشر سنوات من الحظر، مع أنّ ضحايا الحظر كانت بالآلاف، خصوصا بين الأطفال؛ لأنّ الصورة كانت غائبة أو مغيبة تماماً.
المعروف أنّ الإعلام لا يستطيع تبنّي أزمتين خطيرتين، أو معالجتهما، فيضطر إلى اختيار واحدةٍ تفرض نفسها، ويعتم على الأخرى. وبهذه الطريقة، ارتُكبت مجازر عديدة تزامنا مع بث القنوات الفضائية مباريات كأس العالم.
وعملياً، لا يتأثر الغرب بمصير المسلمين المضطهدين، لارتباطهم في الثقافة الجمعية الغربية بالإرهاب، فالزلزال الذي ضرب أرمينيا عام 1988 أثار تعاطفاً لم تثره الهزة الأرضية التي ضربت إيران بعد أشهر. ويطلق الغرب على عمليات الاختطاف التي تدخل ضمن هذا الإطار "اختطافا قذرا"، مثلما حدث مع الجندي الإسرائيلي شاليط الذي اختطف لإطلاق سراح ألف فلسطيني من السجون الإسرائيلية، لكن هذه التسمية لا تطلق على الذين تختطفهم وكالة الاستخبارات الأميركية. كذلك في الوقت الذي يتم التعتيم فيه على مئات آلاف المعتقلين في سجون الأسد، نرى العالم كله يسلط عدسات التصوير على معتقلةٍ أرادت لها إسرائيل أن تكون كبش فداء لإظهار الوجه الإنساني للمحتل الصهيوني. وفي وقت يرى العالم جرائم "داعش" المصوّرة بطريقة أفلام هوليوود، ويحتشد للحرب على الإرهاب، يعمي عينيه عن عودة المظاهرات السلمية في إدلب المطالبة بالحرية وإسقاط الأسد.
إنّهم يجهّزون للمجزرة، والجميع ينتظر البث المباشر.
0DA7BEF5-903D-402E-98C0-91662DBFBE5A
0DA7BEF5-903D-402E-98C0-91662DBFBE5A
ابتسام تريسي
ابتسام تريسي