القاهرة ومواويلها

07 فبراير 2016
استدعاء الأغنية الوطنية بسماجة جعلتها "كرتاً" محروقاً(مواقع التواصل)
+ الخط -

تستحق القاهرة منا ولا شك كل الحب والاحترام، فهي العاصمة العربية الأضخم، والتاريخ له فصول كاملة تبدأ أو تنتهي باسمها، صفحات تمتلئ بالبطولة والعلم والفن، وأساطير في كافة المجالات صنعوا بداخل شوارع القاهرة وأزقتها في الصحافة والأدب والشعر... تلك القاهرة التي كانت... تستحق كل الحب.

لم يكن غريبا أن تمتلىء صفحات "فيسبوك" بالسخرية من تلك الأغنية، التي غناها اثنان من عمالقة الغناء حاليا، عمرو ومنير، وأخرجها واحد من أكبر مخرجي الكليبات في العالم العربي، شريف صبري، فهذا المثلث الذي جاء في محاولة لإعادة التنطيط وهز الوسط، الذي نجح فيه السابقون الأولون، كحسين الجسمي في سمفونيته الخالده (لمّة رجال)،  وكذلك منير ورفاقه في الأغنية التي نالت الحظ الأوفر من السخرية (مصر قريبة)، لكن هذا المثلث فشل في تحقيق هدفه هذه المرة فشلا ذريعا، بل ربما كان نجاحه الوحيد في استجماع عناصر الفشل كلها في عمل واحد!

فاستدعاء الأغنية الوطنية بكل أشكالها هو واحدة من الأدوات، التي تم استخدامها في الفترة الماضية بكثرة وسماجة، جعلت منها كرتا محروقا في مواجهة قصف السوشيال ميديا، مواقع التواصل الاجتماعي، وقوتها على تعرية الواقع وتقديمه للناس على حقيقته بدون مكياج.

وحين تأتي أغنية القاهرة، فول ميكاب، بمكياج كامل للواقع، فأول سؤال يتبادر للذهن عن أية قاهرة يتغنى هؤلاء، وبأي نيل يتباهون!

ففي الكليب يأتي اختيار موقع التصوير بدقة متناهية، ليكون سببا هو الآخر في زيادة السخرية، فالاهتمام المبالغ بالتفاصيل، الشيك، باهظة التكاليف في الأغنية جعلها أقرب للنكتة منها لأغنية تتغنى باسم القاهرة الحقيقية، واختيار الزمالك كبقعة تنطلق منها الكاميرا لترصد جزءا ضيقا، محددا سلفا، من القاهرة ونيلها دليل على انحصار بقعة الحقيقة التي يود أو يستطيع مخرج العمل أن يقدمه للناس.

ربما كان من الأفضل أن يجوب هؤلاء شوارع القاهرة الحقيقية، التي ليس فيها للأسف ما يستطيعون تقديمه للمشاهد، فالقاهرة التي زينت ليلها بالإضاءة المبالغ فيها من أجل الكليب، هي ذاتها القاهرة التي يخيم الظلام على شوارعها إما لانقطاع الكهرباء، أو خوفا من فاتورته التي باتت تلهب ظهور الجميع.

أما نيلها، الذي تباهى مخرج العمل باستعراض جماله وعظمته، فقد بات مهددا بالفعل بالجفاف وتحوله إلى ترعة آسنة بعد أن بدأت إثيوبيا في حجزه خلف قضبان سدها الجديد، وبات رواده اليوم مهددين بهجوم من تمساح جائع ربما يقتلع قدم أحدهم أو ذراعه، متى سرح في تأمل البقية الباقية من جماله.

وعلى ضفاف ذات النيل وفي خلفية المشهد، يقبع العديد من فنادق القاهرة، التي وصلت نسبة الإشغال فيها إلى الصفر، وسرّح العديد منها موظفيها بعد أن انتقلت السياحة إلى غرفة الإنعاش.

أما حكايا القاهرة فلا تتوقف حول مصائب لا تأتي فرادى بل تأتي جماعات، فالجميع غرقى في حكايا السجون، التي تمتلئ بنزلاء أبرياء تخطى كثير منهم حاجز العامين في حبس احتياطي لا يعرف الكثير منهم ما هي تهمته وما هو مآله، وعلى الربابة باتت تروى حكايا المختفين قسريا، الذين ما زالت أعدادهم في تزايد يوما بعد آخر، ولا يظهر أحد منهم لذويه إلا في المشرحة!

حكايا القاهرة ومواوليها تروي كل يوم قصة قلم قصف أو قناة أغلقت أو إعلامي اعتقل، وكل هذا في سبيل أن تخرج الحكاية كما يريدها صناع العمل من زاوية واحدة فقط، وبشهادة شاهد زور، "شاهد ماشفش حاجة".

فالجميل في تلك الأغنية حقا هو أن بطليها لا يعيش أحدهما في القاهرة بالفعل، ولا تعدو القاهرة بالنسبة إليه كونها فسحة قصيرة الأجل، أو ترانزيتاً لطائرته الخاصة، فعمرو دياب على سبيل المثال طيلة السنوات الماضية مقيم بالفعل في مدينة دبي، وإذا ما حل بالقاهرة فهو يحل ضيفا في قصره المنيف بالطريق الصحراوي خارج القاهرة، وبعيدا عن نيلها ومواويلها.

أما شريكه الأسمر، محمد منير، الذي عُرف عنه عشقه للبقاء في ألمانيا طيلة الفترة الماضية وإقامته شبه الدائمة فيها، وإذا ما هفه الشوق إلى مصر حل ضيفا على قصره المنيف بأسوان بعيدا كل البعد عن القاهرة وحكاياها!

تبدو سخرية الشباب مريرة من هؤلاء الذين ظهروا كأنما يريدون أن يضحكوا على المصريين وعلى واقعهم، فلم تلمس صورة الكليب ولا كلماته ولا مطربوه أيا من خيوط الحقيقة، التي باتت تلف شوارع القاهرة كخيوط العنكبوت الذي عشش فوق ظهرها، فحجب ضياء الشمس ونور الحرية، وفي كل مرة تتدلى من سماء القاهرة عرائس مارونيت تتراقص أمام شعبها في محاولة بائسة لإلهائه عن رؤية واقع القاهرة التي كانت.

(مصر)