القاهرة: إلهام المدفعي مرّ من هنا

16 مايو 2019
لم يُجارِ الجمهور المصري بغناء ما طُلب منه (فيسبوك)
+ الخط -
ضمن جولته الفنية الأخيرة، مرّ الفنان العراقي إلهام المدفعي على مصر. تبدو تجربة المدفعي مهمّة جداً في الأغنية العراقية، والعربية عموماً؛ إذ تقع في مساحة خاصّة بين المحلية والعالمية، وكذلك في الموسيقى التجارية، وتلك المستقلة؛ من حيث المحتوى والإنتاج.
المدفعي ذو الـ 77 عاماً، يمثّل حالة نادرة لفنان عربي استمرّ في الإنتاج حتى هذه السنّ، بكامل نشاطه الذي لم يتوقّف أبداً، وخصوصاً عن العروض الحية، وها هو يلحّن آخر أغنياته، "اسكني"، ويسجّل ألبوماً جديداً.

ورغم أنه في السابعة والسبعين، إلا أنه استطاع أن يجد لنفسه جمهوراً أغلبه من الشباب. السبب في هذا، يكمن في الإجابة عن سؤال: كيف يصنع المدفعي موسيقاه؟

لصاحب "مالي شغل في السوق" صوت شجي، نبرته تبدو دائمة الشكوى، لكنه أدرك أن تحت يده كنزاً من التراث الموسيقي العراقي الذي لا يمكن تجاهله؛ يده التي تُمسك الغيتار وتعزف عليه ببراعة، إلى جانب خياله كموزّع موسيقي مميّز. في كل هذه العوامل، وجد المدفعي ضالّته؛ رؤية جديدة عبر توليفة يمكن استثمارها عربياً وعالمياً، ليصنع لنفسه طريقاً خاصّاً، ومعادلة يصعب تحقيقها؛ إذ جعل من نفسه سفيراً ينقل تراثه الموسيقي، ويبرز موهبته كموسيقي وموزع ومطرب أيضاً. اللافت في هذا أيضاً، هو البساطة في اختيار ما يلائم هذه التركيبة، حتى تكون النتيجة تجارية وسهلة للسامع، وراقصة أيضاً.

يختار المدفعي الهارموني (الكوردات) الموسيقية التي تصنع تناغماً لحنياً مع النغمة الرئيسية، أو الغناء، بذكاء؛ فلا نشعر معها أن الغيتار آلة غريبة عن هذا اللحن العراقي، من دون أي افتعال، بل بتناغم نادر مع اللمسة الجيبسي الغجرية، وروح الفلامنكو، اللتين تحملهما الآلة وصوته أيضاً. في بعض الألحان، يختار المدفعي الإيقاع الشرقي الراقص الأشهر؛ المقسوم.


في زيارته الأخيرة لمصر، أقيم الحفل في "كايروجاز كلوب". المقاعد كانت نصف ممتلئة، بعكس ما حصل قبل قرابة أربعة أعوام، حين امتلأ مسرح "لو ماركيه".

لماذا قلّ الحضور بهذه الطريقة؟ لعلّ المدفعي يُحسب على الموسيقى المستقلة عربياً، التي لا مساحات عرض لها سوى المهرجانات والـ showcases، ما يجعل فناناً بحجمه وسنّه لا يمثّل إغراءً كافياً للمستثمرين كرعاة لحفلاته. إلى جانب عوامل أخرى كثيرة، مثل بُعد مقرّ الحفل، وارتفاع الأسعار عموماً في مصر، ما جعل من 500 جنيه ثمناً لتذكرة عبئاً، إضافة إلى غياب الدعاية الكافية.

عودة إلى الموسيقى نفسها، ساهم الإيقاع الراقص المقسوم بتجاوز حاجز اللهجة العراقية الصعبة بالنسبة للمصريين، ليصبح تفاعل الجمهور مع صوت المدفعي أكبر. طبعاً، لا يمكننا إغفال الموسيقى الجيدة، المصنوعة بحرص وجودة، لتقف على حدود التجاري والمستقل؛ التجاري من حيث المفهوم، والمستقل من حيث الأداء والإنتاج.

وفي حين يمكن النظر إلى تجربة المدفعي على أنها فارغة من المضمون، إذا تم تقييمها على مستوى كلامي مثلاً، إذ تقع كل أغانيه تحت مظلة الأغاني العاطفية، إلا أن هذا يعتبر ظلماً إذا أدركنا دوره في التعريف بأغاني التراث العراقي وجمله الموسيقية الثرية، ولا يمكن اختزال دوره في مجرد تعليب التراث وتسليعه، ذلك أنه أضفى عليه مجهوداً موسيقياً في الإنتاج والتوزيع والتسويق، ما مكنه من تحقيق معادلة شبه مستحيلة، خلق من خلالها لنفسه هوية واضحة.

على المسرح، الذي بدت روحه ثقيلة للغاية، برغم رغبة الحضور العارمة في الفرح بمناسبة وجود المدفعي، حضر الفنان بفرقة كبيرة للغاية، تتكون من عازفي إيقاع من ضمنهما الطبلة العراقية الأشهر، وعازف ساكسفون، وباص غيتار، ومغنّيي كورال لم يسمع صوتهما خلال الحفل، وعازف درامز، وآخر على كيبورد، وعازفي ناي مصريين، وأخيراً رفيق دربه، الشخص الثاني الأهم في موسيقاه، قائد الفرقة بالتشارك مع المدفعي؛ عازف القانون الذي رافقه لمدة 28 عاماً.

حجم الفرقة الكبير على المكان والحدث، كان سبباً في إيضاح فكرة أن الفرقة كلها لم تجر بروفة/ تدريباً واحداً معاً بكل أفرادها من أجل هذا الحفل.
اشتكى المدفعي من مستويات الصوت وهندسته أكثر من مرة، حتى أبدى ملاحظاته عبر المايك بانفعال مهذب. تفادى صاحب "خطّار" غناء بعض أشهر أغانيه الحزينة، مثل "جلجل علي الرمان" و"بغداد"، رغم صياح الجمهور بطلبها عدة مرات. هكذا، يبدو الهدف الذي حدّده المدفعي لنفسه واضحاً منذ بداية مشواره: موسيقى للفرح.




المساهمون