الفيل الأميركي وبيت الفخار المشرقي
هي المرة الأولى التي تحضر فيها أميركا إلى المنطقة، بدعوة من غالبية دول وقوى الإقليم، وغالباً ما كان حضورها يصنع انقسامات واصطفافات، وغالباً ما كانت المبادرة والمتشجعة، الكل يعتقد أنها قادمة لأجله، أو على الأقل يستطيع تجيير حضورها لمصلحته، وجعلها القوة النارية التي سيهزم بها خصمه، وسبب ذلك اعتقاد الأطراف المختلفة في المنطقة أنها أوصلت خصومها إلى الجولة الحاسمة التي ستخوضها بالذراع الأميركية.
لكن، أيضا، ينطوي استدعاء القوة الأميركية، في أحد تعبيراته، على اعتراف صريح من كل القوى المتصارعة بأنها وصلت إلى طريق مسدود، واستنزفت كل إمكاناتها في البقاء والصمود. وبالتالي، فهي تستدعي الطرف الأميركي لإيجاد مخرج لها من هذا المأزق. لكن، ألا يستدعي هذا الأمر الحذر والتروي، من الطرف العربي الأضعف على المستوى الإقليمي، وخصوصاً أن هذا التدخل تحيط به ثلاثة معطيات (حقائق) تنذر بمخاطر جمة، قد يحدثها هذا الاستدعاء الأميركي:
الأول، انهيار الوطنيات المشرقية، في العراق وسورية ولبنان وفلسطين، وبلوغها مستوى متدنياً، لم تشهده منذ نشأتها، ويحول هذا الوضع الكيانية في هذه البلدان إلى جسم رخو وقابل للتشكيل وإعادة الصياغة، في ظل حالة الانقسام الطائفي والمناطقي التي باتت تعبر عن نفسها بوضوح صارخ. وتشي هذه الاختلالات البنيوية بتغييرات جيوبوليتيكية قادمة، خصوصاً أن التدخل يأخذ شعار حماية الأقليات، ممن؟ ما يعني توجيه ضربة نهائية لإمكان قيام هوية مواطنية في المشرق الذي يعاني من عطب مزمن في بنيته السياسية.
الثاني، هياج المحيط الإقليمي، الإيراني – الإسرائيلي – التركي، وبحثه عن أدوار ومنافع جيواستراتيجية، مستغلاً حالة الدولة المريضة في المشرق، وينتظر أن يرث أجزاء من جغرافيته، ويطوي كتلاً من ديمغرافيته، بوصفها امتداداً حيوياً وشرفات جغرافية وأحزمة أمان مستقبلية لها. فيما النظام الإقليمي العربي صار خارج القدرة على التأثير والفعالية، بل هو نظام انهار، وإن من دون إعلان رسمي بنهايته.
الثالث: وقوع هذين المتغيرين، واندماجهما، على خط التغييرات البنيوية الحاصلة في النظام الدولي والتغييرات الاستراتيجية الهيكلية في النظام العالمي، ووقوع منطقة المشرق العربي في قلب خريطة نقل الغاز إلى الغرب، بوصفه الطاقة البديلة في القرن الحالي.
وثمة معطى آخر، يتوجب الانتباه إليه، هو أن الحرب الأميركية، إن حصلت في المنطقة، ستكون أول حرب أميركية غير أيديولوجية، منذ نحو قرن، ذلك أن حروبها السابقة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط خاضتها واشنطن تحت شعار مناصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، بغض النظر عن التزامها بهذا المحتوى، وهذا يعني أنه كانت لكل تلك الحروب أهداف واضحة، على ضوئها كان يتم رسم الاستراتيجيات، وتقدير مدى الحروب وطبيعتها، في حين تبدو أميركا الحالية بدون استراتيجية كبرى واضحة، وجراء ذلك تعاني سياستها الخارجية اضطراباً ملحوظاً ولا تعرف نخبها السياسية ما تريده بالضبط، وخطورة هذا المتغير من كونه قد يجعل من سلوكها عنيفاً، ويشتغل على ردات الفعل.
وإضافة إلى ذلك، لا بد من ملاحظة قضيتين خطيرتين في الحضور الأميركي، سيكون لهما أثر كبير في التطورات المستقبلية للمشرق:
الأولى: أن الحضور الأميركي لا يحصل من أجل مشكلات المشرق بحد ذاتها، وإنما بهدف تحييد تأثيراتها على خط مصالحه الذي رسمه شمالاً عند حدود كردستان، وجنوباً قرب بغداد، حيث يوجد موظفوه وحقول النفط والاقتصادات والأسواق الناشئة. ويهدّد هذا الأمر بإمكانية إيجاد ترسيمة للمنطقة، تقوم على أساس مناطق مفيدة، يجري دمجها بخريطة العولمة، تشمل المناطق السابقة وشواطئ المتوسط، ومناطق هامشية، يجري تركها للخراب ومجمعاً للقوة المنبوذة.
الثانية: أن واشنطن تلح على السؤال عن اليوم التالي، ماذا بعد تدخلها؟ وتكاد تطرح هذه المسألة محدداً، أو شرطاً، لقبول انخراطها بالحرب على الإرهاب، وهذه المسألة بالذات يبدو أن واشنطن بصدد ترتيب صياغة لها، إذ تلمح أميركا إلى طرح مسألة الفدرلة في العراق، وتعميمها، لاحقاً، على المشرق العربي، وهي دعوة غير بريئة، في ظل واقع التشظي الذي يضرب الكيانات المشرقية، إذ يجعلها وصفة مؤكدة للتقسيم.
هذا التصميم في حال حصوله، يشكل ربحاً صافياً للقوى الإقليمية غير العربية، وخصوصاً إيران التي تريد أخذ حصتها في الخليج والعراق على شكل دول طائفية، ربما ذلك ما يفسر الترحيب الإيراني بالتدخل الأميركي.
بين المشرق العربي والتدخلات الأجنبية حالة تنافر دائمة، إذ يشير تاريخ التدخلات، دائماً، إلى حصول تغييرات مهمة على مستوى الكيانات، والعبث ببناها الاجتماعية وعلاقات مكوناتها، وليس بعيداً ذلك التاريخ الذي عمل فيه الفرنسيون على تقسيم سورية إلى خمس دول، وكذا إعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين، واجتزاء أراض عراقية لمصلحة إيران وأقاليم سورية للدولة التركية، والغريب تشابه ظروف اليوم ووقائعها مع تلك التواريخ، وخصوصاً لجهة الفوضى الحاصلة في النظام الدولي، والتغييرات في مواقع ومراكز القوى الإقليمية، وعدم وجود دولة مركزية قوية، واليوم يقع التدخل الأميركي فيما تنخرط مكونات المشرق كلها في حرب ضروس، فتكت بوطنياته وأسس اجتماعه، بينما تظهر أميركا قوةً عارية من دون مشروع واضح، ما يجعل دخولها يشبه دخول فيل أعمى إلى بيت من فخار.