وفي هذا الإطار، افتُتح الأسبوع الماضي معرض تشكيلي مثير تتجاور فيه أعمال للفنان ميلود لَبْيَض (مواليد 1939) الذي يعتبر من أهم الأسماء المؤسسة لفن التصوير الصباغي الحديث في المغرب، وأعمال للفنان زين العابدين الأمين (مواليد 1976)، وهو اسم جديد ومجتهد في مدونة التشكيل المغربي المعاصر.
وفور الإعلان عنه، شكّل هذا المعرض محور أحاديث ومناقشات عدد من الفنانين ونقاد الفن في المغرب، نظراً إلى طبيعة الأعمال المعروضة التي لا تتساوق، في نظر بعضهم، في مضامينها كما في أفقها الشكلي الجمالي وفي طموحها الفني، ثم لكون الفنان ميلود لبيض قد غادر الحياة سنة 2008.
إلا أن فريقاً ثانياً يرى في هذا المعرض مناسبة استيعادية لتكريم الفنان الراحل، باعتباره كان قامة فنية مجددة ومغامرة، لم تنل نصيبها من الحضور والانتشار. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الموعد الفني يمكن اعتباره فرصة مواتية لتدشين شكل جديد من المعارض المشتركة، يجمع بين أسماء مكرسة قضت، وأخرى شابة جديدة، تدخل غمار العرض والإبداع بغير قليل من الجرأة والجدية وروح المغامرة الخلاقة.
ويحضر اسم ميلود لبيض كأحد الفنانين المغاربة البارزين، ممن شغفوا بالخطوط والأشكال والألوان، في الوقت الذي كان فيه مجرد ارتياد هذا العالم الملون يعتبر نقيصة وضرباً من العبث ومضيعة للجهد وللوقت على السواء.
ورغم أنه لم يكن خريج مدرسة أو معهد فنيين، إلا أنه اعتمد، في المقابل، على عصاميته لنحت اسمه الفني، إلى جانب قامات فنية أخرى، كان أغلبها قد سافر للدراسة في المعاهد الفنية الأوروبية، أمثال أحمد الشرقاوي، الجيلالي الغرباوي، وبعدهما كل من محمد المليحي، فريد بلكاهية، سعد بن السفاج.
ومنذ مغادرته لمنطقة قلعة السراغنة (1945)، اختار لبيض الاستقرار بعدوة سلا، المدينة المطلة على عدوة الرباط العاصمة، ومنها انخرط، ابتداءً من سنة 1958 في مسار تكويني بإحدى ورشات التصوير الصباغي الخاصة التي كانت تشرف عليها الفنانة الروسية جاكلين برودكسكيس المقيمة آنذاك بالمغرب، وهي الورشة التي كانت بوابته الفعلية نحو الاحتراف الفني.
هذا المسار الذي بدأه لبيض فناناً تشخيصياً، سرعان ما نقله إلى عالم التصوير التجريدي، لاقتناعه بأن التشخيص لا يلائم طموحه الفني كما لا يعكس رؤيته الجمالية للعالم وللأشياء. وبعد هذا التحول في الأسلوب، جرّب لبيض عدة أشكال فنية، دون أن تستقر ذائقته على شكل محدد أو ثابت. وهكذا نجده ينجز أعمالاً فنية وفق ما يعتبره النقد الفني تجريداً هندسياً وأيضاً تجريداً غنائياً، قبل أن يختبر النحت والتصوير الفوتوغرافي في مرحلة متأخرة اتسمت خلالها تجربته بالنضج وسلاسة الإنجاز.
ويبقى أهم ما يميز أعمال لبيض هو احتفالها بعالم لوني يميزه التشظي وعدم الصفاء، وارتكازها في ذلك على سلسلة من الألوان الحارة والغامقة، ضمن توظيف دائري ـ في أغلب الأحيان ـ كأنما يتعلق الأمر بنوع من اللايقين الذي عاشه الفنان، حتى وفاته، كحالة وجودية إن في الواقع أو في عالمه الفني التجريدي.
زين العابدين الأمين.. مغامرة القليل الدال
أما الفنان زين العابدين الأمين، الذي راكم عدداً مهماً من المعارض والمشاركات في المحترفات الفنية إن في المغرب أو في الخارج (فرنسا، البرتغال، إسبانيا، الدنمارك، وبلجيكا وغيرها) فقد تخرّج من المعهد العالي للفنون الجميلة بمدينة الدار البيضاء، قبل أن يمتهن تدريس مادة الفنون التشكيلية بإحدى المؤسسات التعليمية في مدينة الجديدة.
ومنذ معارضه الفنية الأولى، اختار الأمين استثمار موهبته الفنية عبر وسيطين: تقني وجمالي يكتفيان بالقليل الدال، وهو ما سمح له بالإبداع في ما تتيحه روح المغامرة من إمكانات قد لا تلائم، في أغلب الأحيان، ميولات عين المشاهد المغربي والعربي التي ما زالت لا تطمئن ولا تميل لغير الملوَّن والاحتفالي أو الواضح.
وتبرز هذه الروح المغامرة في لجوء الفنان زين العابدين الأمين في جل أعماله، سواء الصباغية منها أو التجهيزية، إلى استثمار المفردة اللونية في حدودها الدنيا، أي اقتصاره على اللونين الأبيض والأسود، بما هما اختزال لمجمل الألوان، مع حضور للطخات تلوينية إضافية تضيء تركيبة هذين اللونين، ما يخلق تناغُماً شكلياً فوق سند من خشب صناديق قديمة.
وقد يجد هذا التقتير اللوني تفسيره في ما يذهب إليه الفنان في حديثه عن موضوع لوحته، حيث يشير، في هذا الصدد، إلى أنه ظل مشدوداً دائماً إلى عالم الأموات، إلى فضاء المقابر خصوصاً، وما يحيل إليه هذا الفضاء من سكينة ومن فسحة للتأمل والإنصات لفراغات الجسد وملامسة هشاشاته، والتي يعمل الفنان على نقلها إلى لوحته بلمسة تجريدية، تكتفي بالإشارة فقط دون أن تُفقِد الموضوع خصوصيته.
ربما من زاوية النظر هاته، نستطيع أن نقترب من ذلك الخيط الرفيع الذي يصل، بهذا الشكل أو ذاك، عوالم لبيض بعوالم الأمين، عبر استحضار استثمار الفنانين معاً لجهدهما التعبيري في المتشظي والمأزوم والهش والزائل، بما هي حالات تعكس نوعاً من الوجود المأزوم، الذي يغلّف حقيقة الإنسان ويؤطّر وجوده في هذا العالم. ولعل في ذلك ما يبرر راهنية هذا المعرض ويؤكد انسجام الأعمال التي يقدمها لزواره.
____________________________
يستمر المعرض حتّى التاسع من نيسان/ أبريل 2014
رواق "نظر"، 5 زقاق المنازيز، المعاريف، الدار البيضاء