الفلسطيني المبعثر وكل هذا النشيج

09 سبتمبر 2015
+ الخط -
أعطت الصورة الملحمية المباشرة للصراع العربي الإسرائيلي، بهزائمه المتتالية، إلهاماً طيّعاً للمبدع الفلسطيني، أعانه على ترجمة المشهد القاتم أو المشرق (بحسب الظرف) صور بلاغية انفعالية وعاطفية، حشدت للكفاح المسلح على مدى عقود الألفية الماضية. 

واللقطة المنفردة لأكثر تجليات النضال الفلسطيني في تجسيد انتفاضة 1987 ـ 1991 وفرت الوحي للهوّة الصارخة بين (الاحتلال الغاشم بكل جبروته وعنجهيته والمقاومة بأبسط أسبابها وأكثرها رمزية). وساعد الرمز (الحجر) على رفد المخيّلة الفلسطينية بشتى أطيافها، إلحاقاً بملحمة النكبة، وفقدان الأرض، واللجوء والشتات، وكل الأدبيات التي قامت عليها خصوصية الثقافة الفلسطينية.
لكن، أصبح من المتعذر، اليوم، إيجاد خيط لاستحضار (يوم الأرض) في وجدان الشعب الفلسطيني، مع هواجسه وغرائزه ورغباته المتضاربة، وتفاصيل حياته المتعددة الولاءات، والتصنيفات، ومشاريع السلام الباهتة، فليس سهلاً أن تجد شكلاً محدداً لفلسطين، حالياً، أو تحديد خطوط خريطتها كما هو متعارف، لكثرة ملاّكها وأدعيائها وممثليها، وتعريفاتها.
من هنا، وجب إعادة تعريف قضية، جرى تأجيلها إلى أجل غير مسمى، وتفريغها من محتواها، خصوصاً وأن من الصعب استصراخ الألم من حالة الذهول التي يعيشها أبناء القضية، بتصنيفاتهم العديدة على رقع جغرافية متباعدة، فيما تعيش كل فئة واقعاً مختلفاً عن الأخرى، وتحمل تطلعات متباينة، واحتياجات متفاوتة في قسوتها.
ثقافياً، لا يمكن التعبير عن مأساة لا يمكن الإحاطة بها، أو إبصارها، وهي قابعة كما الظل؛ قاتمة ومتموجة ومائعة، من دون القدرة على تلمسها وتحديد أبعادها لإعادة تكوينها، إبداعياً، فالقضية الفلسطينية في أواسط القرن الماضي كانت في أوج عنفوانها (النكبوي). لهذا، كان يسهل الاقتباس من إحباطاتها، وتحويل هزيمتها إلى لغة، وخسارتها إلى غضب بلاغي، فانتشر شعراء المهجر والداخل، والنصوص الثورية، ومتقمصو القضية، وانصهرت الحالة النضالية التي اقتاتت على "صراع القطبين"، في أتون الحركات الثورية اليسارية، فأضحت القضية الفلسطينية نبراساً للحركات العالمية، وناصية للشارع الثقافي التحرري.
سبعون سنة من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، واليوم، في خضم فوضى "دول الطوق"، تقلصت قوالب دمية الـ (الماتريوشكا) الفلسطينية في أصغر عرائسها، ليتم تجريدها من هالاتها ورومانسيتها إلى واقع جاف ومنفّر، يستدعي حالة الإحباط والكمون؛ والنفور أحياناً، وآلت إلى مجرد خلاف مع الاحتلال على مناطق (أ وب وج)، لتضمر في أبجدية محدودة وقاصرة بلاغياً عن إثراء المخيلة الفلسطينية بالنص، إلا من استثناءات مبعثرة.
تستدعي الحالة الإبداعية الفلسطينية مراجعة حقيقية للحقبة التاريخية التي سجلتها القضية الفلسطينية، على مدى سنواتها الطويلة، لتشكل سرداً له هويته وتصنيفه الثقافي الفريد، كما تحتاج إلى حسبة أكثر دقة لمستقبل القضية، تأخذ في الاعتبار، المؤاخذات، والمعطيات الجديدة، للنظر إليها بصورة مختلفة عما كتبه غسان كنفاني في تبسيطه الروائي الفذّ "عائد إلى حيفا".
وبقدر الأريحية التي تمتع بها كنفاني، أو ناجي العلي، بتعبيرهما (السهل الممتنع) عن القضية، في بداياتها الواضحة، ضمن العلاقة الأقصر بين الجلاد والضحية، أو حتى في فترة مراهقتها التي عبّر عنها محمود درويش وسميح القاسم، إلا أن سلاسة الطرح لهذه العلاقة الدرامية اختلفت بعد أن تشظت المأساة، ودخلت مرحلة نضوج حتمية، وهي تلد جيلها الثالث.

وموجة اليأس التي انتابت اللاجئ الفلسطيني المشتاق لبرتقال يافا في (أرض البرتقال الحزين)، تختلف كثيراً عن التي انتابت الباحثين عن كسرة الخبز من منبوذي مخيم اليرموك، المكلومين بالجوع والموت. الصورة أشد دموية لانقطاع الإنسان عن الأرض، واللجوء المركّب، والتنقيب عن الوطن المؤقت في طيات القذائف، أو على متن السفن الهاربة إلى الهلاك.
يحتاج الإنسان الفلسطيني المتناثر إلى أكثر من كربلائيات لإثبات وجوده الحتمي، وتأكيد مزاحمته الحضارة البشرية الفطرية، وإدراك أنه ليس زائدة لحمية تستلزم النحيب، بل هو جزء من الخير والمكر على حد سواء. وهو بذلك حالة وجودية متكاملة، ليست محسوبة على أحد، وإن صودرت بواقع وثائقي وضرورات الإقامة، فهي، في كل فرد، ملحمة بحد ذاتها تستأهل التعبير والدلالة.
وضع كنفاني والقاسم ودرويش اللبنات الأولى للأوديسا الفلسطينية، لكن ذلك لا يعني أن نستمرئ الشتات باعتباره عورة، ولا أن نستحصل حصانتنا من أوجاعنا، لتضمن لنا طمأنينة الركون إلى ملاذ الضحية.. بل ثمة برتقال كثير ليس شرطاً في يافا، فلدى كل فلسطيني برتقالته (تجربته)، ولديه الكثير ليبوح به. كما أن الصورة المتشعبة للقضية وأهلها أكثر ثراء من أبجدية الـ ABC، وهي أعمق لأن تحافظ على الهوية ناضجة ومجدية لا تشيخ.
هناك ما يكفي من النشيج في المشهد الفلسطيني، بيد أن الواقع المبعثر يحول دون تسمير الضرورة البكائية، وإقامة مملكة الأطلال فوق سراب التاريخ، لأن الوقت يداهمنا.