الفلسطينيّ الأخير

17 يونيو 2015
+ الخط -
"الفلسطينيّ الأخير" تسمية لا تعني الفلسطينيّ الحديث، بل صاحب الوعي الوطني الجذري المثابر في إعادتنا إلى رؤية ومشروع التحرر الوطني الفلسطينيّ، بحجمه الحقيقيّ، وليس إلى فتات التحرّر! 

التحايل والتعويد وتبليد الفعل أخطر ما تتعرض له القضيّة الفلسطينيّة اليوم، حيث تجري وقائع التشريد الممنهج، في سياق عملية قضم وتشتيت ناعمة، بتجزئتها إلى مشاريع صغيرة ضمن محطات جيوسياسيّة، قد تبدو بسيطة، بل وتوحي كأنها مؤقتة، بيد أنها فعالة، وتستهدف أساسا تشريد الوعي الجمعي، وتبديد لحمتنا فكريًا وثقافيًا هذه المرّة. ما كان لهذه الفكرة الخطيرة أن تنتعش، وترى النور أبدًا، لولا تلك الصراعات المأسوية التي تجتاح منطقتنا العربية، ولولا زجّ القضيّة الفلسطينيّة إلى داخل هذه الصراعات، حيث توظف مرة رصيداً يُجتر ويستهلك لدى هذا الطرف، حتى تتشوه لدى الطرف الآخر، ومرة يصبح تقبّل الوجود الإسرائيلي في المنطقة، والتعامل معه، صنفًا من ضروب الانفتاح والحداثة والتنوّر، في مشهد عبثي مخجل، وكأن الحديث عن هذا الصراع التاريخيّ بالنسبة لهم تمامًا كالحديث عن الشعوذة والسحر البابليّ القديم.
غير أنه، والحق يقال، لم يكن لهذه الحالة الهزيلة أن تترسّخ بمعزل عن الدور الوظيفي لسلطة أوسلو في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة عام 67، والذي يقزم قامتها فعلياً إلى نطاق الوسيط الخارجي بين الحكومة الإسرائيليّة والشعب الفلسطينيّ، ويمنعها من أن تتصرف على أنها قيادة وطنية لشعب ينشد التحرير، بل وكيلاً للاحتلال، يتفاعل وإياه ضمن شبكة متداخلة من التنسيقات المخزية، من ضمنها وأخطرها التنسيق الأمني، لتتحول هذه السلطة لاحقاً من وسيط فاشل إلى ممثّل جيّد للمصالح الإسرائيليّة أمام الشعب الفلسطينيّ في الضفة وأمام العالم.
تلمع عينا السلطة الفلسطينيّة بآمال السيادة الواهمة على أرضها، وهي تدرك أنها واهمة، ما دامت تحاول التفرّد بهذه القضية، وبناء مشروع التحرر على 20% فقط من فلسطين التاريخيّة، ولا تخجل من عزل قطاع غزة عن هذا المشروع، متذرعة باللجان الإدارية التي تدّعي أن هناك من يفاوض لأجلها في القطاع سرًا مع الحكومة الإسرائيلية، أي في ظل الحديث عن دويلة منفصلة في غزة، ما يزيد القضية تيهًا وشتاتًا.
يأتي كل هذا ردّاً ساخراً على الفلسطينيّ الأخير الذي يحاول لملمة القضيّة الفلسطينيّة، وإعادتها إلى سياقها، أو ربما الانتقال من قومنتها إلى عولمتها، أو تحويلها من قضيّة من يعاني منها فقط إلى قضيّة كل من يطالب بها.
وتساهم هذه التجزئة في إحداث مشاريع صغيرة خاصة لكل من يحلم بالسيادة، السيادة التي تنحصر مرة بالجغرافيا، ومرة بالاقتصاد (وليس الاقتصاد كنشأة اقتصادية، أو تطور اقتصادي، بل اقتصاد طفيلي، يعتاش من تحويل الضرائب أو إدخال المعونات)، ويصبح ذكر حق العودة ووقف الاستيطان، مثلاً، جزءا هامشياً من هذا المشروع، والمرحلة الأخيرة البعيدة منه، وليس المشروع بحد ذاته.
يساعد كل هذا الشتات الحكومة الإسرائيليّة على محاصرة كل مشروع على حدة، ويساعدها في إبعاد القضية، كل البعد، عن ميزان العدل الذي يضع الضحية الحقيقية أمام الجريمة الحقيقية، ويُقابل الظلم الحقيقي بالتعويض الحقيقيّ. وليس هذا سلوكا غريبا على المحتل، لكن مساهمة الفلسطينيين في ذلك هي السلوك الغريب على الواقع تحت الاحتلال.
لا أستثني من هذا السياق فلسطينيي الداخل (48)، فعلى عكس الفلسطيني الذي يريد أن يجلب الحل من الخارج ليطبقه في الداخل، ما زال الفلسطيني الأخير يرى الحل من الداخل، ليخرج به إلى العالم، بدءا من فرز مضامين المساواة بوضوح، وانتهاءً بالعمل على تجريد الدولة من رموزها الإثنية، والحديث الجدّي عن حل الدولة الواحدة. قد يكلّف هذا أثمانا باهظة، أولها بدء التنازل عن خطاب المساواة ضمن حدود 48 فقط، والتدرّج نحو إيجاد أرضية خصبة لاستقبال خطاب سياسيّ جديد أوسع وأشمل.

0A5231EF-01DA-494F-A765-CCF6ABDF6023
دعاء حوش

كاتبة وناشطة فلسطينية