الفقر يطارد العراقيين

01 نوفمبر 2018
تبحثان عن رزقهما في مكبّ النفايات (أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -


تشكو نسبة كبيرة من أهل العراق من الفقر الذي تحوّل إلى خطر يهدّد تماسك المجتمع واستقراره، في ظل غياب واضح للسياسات الاقتصادية الوطنية التي من شأنها أن تقلل من تبعات ذلك الفقر الذي يطارد أسرا لا تتوفر لديها فرصة عيش كريم في بلاد النفط والرافدين.

بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وما تبعه، وجد آلاف العراقيين الفقراء في معسكرات الجيش العراقي السابقة والمقار الحكومية ملاذاً آمناً لهم، فاستقروا في تلك المنشآت وإن كان في ذلك تجاوز على أملاك الدولة. فراس عبد الزهرة واحد من هؤلاء، وهو ما زال حتى اليوم يسكن مع أسرته في غرفة سقفها من الصفيح في معسكر الرشيد، شرقيّ بغداد. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الحياة في هذا المكان لا تطاق، لكنّها أرحم من ذلّ الإيجار"، مشيراً إلى أنّ "تلك الغرفة أشبه بفندق للمبيت فقط. فأنا أقضي نهاري كلّه وجزءاً من الليل في العمل، كذلك الأمر بالنسبة إلى جميع أفراد أسرتي".

ويوضح عبد الزهرة أنّه هو وزوجته يقضيان النهار في مكبات النفايات القريبة من معسكر الرشيد، "بحثاً عمّا يمكن بيعه، بينما يعمد أولادي الثلاثة إلى بيع المياه على الطريق العام بجانب المعسكر. وفي الليل، نعود الى غرفتنا، وننظف ما جمعناه من مكبات النفايات لنبيعه في نهاية الأسبوع". لكنّه يلفت إلى أنّ ذلك لا يدرّ عليهم أكثر من 15 ألف دينار عراقي (نحو 13 دولاراً أميركياً) في أحسن الأحوال.

وينتقد عبد الزهرة الإهمال الحكومي للفقراء الذين يكتظ بهم معسكر الرشيد، مؤكداً أنّ "هذا الأمر تسبب في انحراف صبية كثيرين توجّهوا نحو السرقة، الأمر الذي عرّض المعسكر الذي يضمّ عدداً كبيراً من أسر الحواسم إلى مداهمات متكررة من قبل الشرطة العراقية". و"الحواسم" مصطلح أطلق على العراقيين الذين اقتحموا مؤسسات الدولة ومعسكرات الجيش السابقة واستولوا على مبانيها وحوّلوها إلى مساكن دائمة لهم. يُذكر أنّ معسكر الرشيد كان من أكبر معسكرات الجيش إبان حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.




لا يتركّز الفقر في تلك الأماكن، بل إنّ مظاهره تنتشر في كل أنحاء بغداد والمحافظات العراقية. وفي حين التحق أطفال العراق بمدارسهم فرحين بعامهم الدراسي الجديد، اضطر آخرون إلى ترك مقاعد الدراسة والتوجّه نحو الأرصفة والساحات بحثاً عن لقمة العيش. وتمكن ملاحظة ذلك بوضوح عند مفرق الدورة، جنوبي بغداد، حيث يتجمّع عشرات الصغار ويتسابقون لمسح زجاج السيارات المتوقفة عند إشارة المرور، في مقابل 500 دينار (أقل من نصف دولار). عمر إحسان واحد منهم، ويبلغ من العمر 11 عاماً. يخبر "العربي الجديد" بأنّ "والدي أرغمني على ترك الدراسة والعمل بمسح زجاج السيارات، من أجل مساعدته في توفير بدل إيجار المنزل وتكاليف المعيشة". يضيف: "أجني في اليوم نحو عشرة آلاف دينار (نحو ثمانية دولارات). وأعمل هنا مع أختي التي تصغرني بعام واحد، فوالدي من ذوي الإعاقة وعائلتي تضطر في أحيان كثيرة إلى المبيت من دون عشاء".

من جهة أخرى، في مخيمات النزوح التي ما زال بعضها قائماً في محافظات شمالي العراق وغربه، أسر كثيرة تشتكي من فقر مدقع. تقول الحاجة غنية الدليمي في مخيّم عامرية الفلوجة في محافظة الأنبار (غرب)، إنّ "المتبقين في مخيمات النزوح هم من الأسر المسحوقة، مشيرة في حديثها لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "الحياة هنا صارت مرهقة بصورة كبيرة". وتشرح أنّ "يومنا نبدأه بفطور هو كناية عن قطعة خبز صغيرة وشاي، قبل البحث عن الغداء الذي يكون غالباً كمية قليلة من الأرزّ. ثمّ يأتي الليل، فنفترش الأرض في انتظار صباح اليوم التالي". والدليمي مصابة بداء السكري وهي غير قادرة على مراجعة الطبيب بسبب التكلفة العالية، مؤكدة أنّ "النازحين تحوّلوا إلى فئة منسية لا تهمّ أحداً. والحديث عن مساعدات تقدَّم إلى النازحين غير صحيح". وفي هذا الإطار، يقول محمد العيساوي، وهو أحد المسؤولين عن حماية مخيّم النازحين في عامرية الفلوجة، لـ"العربي الجديد" إنّ "كثيرين من الأطفال وكبار السنّ أصيبوا بأمراض مختلفة بسبب عدم حصولهم على الغذاء الكافي أو تناولهم أطعمة ونباتات غير صالحة للاستهلاك"، مؤكداً أنّ "ثمّة مأساة غير مسبوقة هنا".

في سوق للبضائع المستعملة (حيدر الحمداني/ فرانس برس)


في سياق متصل، دفع التجاهل الحكومي للفقراء بعض العراقيين إلى بيع أعضاء من أجسامهم من أجل مواجهة أزماتهم الاقتصادية. وهذا ما يؤكده محمد الذي تحفّظ عن الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "اضطررت إلى بيع إحدى كليتَيّ لقاء 15 مليون دينار (نحو 13 ألف دولار)، من أجل تأمين علاج ابني المصاب بالسرطان والبالغ من العمر سبعة أعوام". وإذ يوضح أنّ "الأمر تمّ بإشراف عدد من الأطباء الذين تحوّلوا إلى تجار أعضاء بشرية"، يشير إلى أنّه راجع أفضل المستشفيات في العراق من دون أن يتمكّن من الحصول على علاج لابنه. يضيف أنّ "الفقر دفع بعض الأسر إلى حدّ بيع أولادها". يُذكر أنّه قبل نحو عامَين، انتشر تسجيل فديو لرجل عراقي يعرض أطفاله للبيع في أحد البرامج التلفزيونية، في حين تعلن الشرطة العراقية بين الحين والآخر عن عثورها على أطفال حديثي الولادة، مرجّحة أن يكون ذووهم قد تخلوا عنهم بسبب الفقر وعدم القدرة على تربيتهم.

وكان البنك الدولي قد حذّر في مايو/ أيار الماضي من هشاشة الوضع الاقتصادي في العراق لعام 2018، موضحاً أنّ خط الفقر الوطني وصل إلى 22.5 في المائة، ولافتاً إلى أنّ إحصاءات سوق العمل تبيّن مزيداً من التدهور. فقد سجّلت مساهمة الشباب بين 15 و24 عاماً، تراجعاً ملحوظاً في دعم الاقتصاد، فضلاً عن ارتفاع نسبة البطالة بمعدّل الضعفَين في المحافظات التي تضررت من عنف تنظيم "داعش"، لا سيّما محافظات شمالي العراق وغربه مثل نينوى وصلاح الدين والأنبار التي شهدت موجات نزوح واسعة بعد عام 2014.



من جهتها، كانت وزارة التخطيط العراقية قد أصدرت تقريراً في وقت سابق من هذا العام، بيّنت فيه أنّ نسب الفقر ارتفعت في المدن التي احتلها تنظيم "داعش" لتصل إلى 41 في المائة، بعدما لم تكن قبل ذلك تتجاوز 20 في المائة. وأوضحت أنّ نسبة الفقر في محافظات جنوبي العراق بلغت 31.5 في المائة، وفي محافظات الوسط 17 في المائة، وفي بغداد 13 في المائة، في حين ارتفعت في إقليم كردستان العراق لتصل إلى 12.5 في المائة بعدما كانت ثلاثة في المائة قبل عام 2014. وفي فبراير/ شباط الماضي، أطلقت اللجنة العليا للتخفيف من الفقر في العراق استراتيجيتها للحدّ من الفقر، وصرّح وزير التخطيط العراقي سلمان الجميلي، حينها، بأنّ وزارته تعدّ قاعدة بيانات قائمة على أساس المسح الاجتماعي للأسر المحتاجة.