ما زلت أذكر سؤالي لأخي الأكبر: لِمَ لَمْ تكن لنا أي مساهمة في الحضارة الحديثة؟ أيعقل لا نظرية ولا اختراع ينسب لنا في القرون الأخيرة التي انفجرت فيها الحضارة الغربية.
كيف حصلت هذه الفجوة التي لم ندرك غورها إلا في نهايات القرن الثامن عشر مع دخول نابليون مصر بالأسلحة الحديثة والسفن العملاقة، حين سيطرت قواته على الإسكندرية والقاهرة في أيام معدودات، أدركنا حينها الشأو البعيد بيننا، وقد سبقت هذه الصدمة العربية صدمة إندونيسية وهندية وأميركية من قبل السكان الأصليين.
لن أكتب هنا حول الذي أخمدنا تلك القرون والأسباب التي أنستنا التراث الذي أورثناه العالم في القرون الذهبية (من القرن السابع الميلادي إلى نهايات القرن الثاني عشر)، ومحاولة محمد علي باشا مواكبة الزمن -ربما نعود لها بتحليل مختلف في نهاية هذه السلسلة من المقالات- بل سأكتب حول الذي أنهضَهم، حول السُّلم الذي صعدوا عليه فتصاغر حجمنا قياساً إلى حجمهم، لا شك في أنها مسألة معقدة متداخلة، لا يمكنني أن أدعي التأثير الكلي لعامل واحد دون العوامل الأخرى، فعملية النهضة خليط من مواد كيميائية مركبة تخلط وتحرك معا لتنتج، لا أن تضع مادة واحدة تحركها وتنتظرها تتركز ثم تضيف المادة الأخرى، على الرغم من ذلك سأحاول جاهداً البحث عن العلة الفاعلة الأكثر تأثيراً في إحداث، لا أقول النهضة، بل الفجوة التي حصلت مع الشرق.
لا شك في أن الفجوة الكبرى التي حصلت بين الشرق والغرب كانت بسبب الثورة الصناعية 1760م إلى 1850م، فهي التي أحدثت الفارقة الكبرى، من خلال إنتاج ودراسة مقدمات الثورة الصناعية وعللها سيؤدي بنا إلى معرفة العلة الأولى.
يرى كثير من المحللين الحداثيين أن الشرارة الأولى التي أشعلت موقد الحضارة في الغرب هي القطيعة مع الثقافة المدرسية العتيقة، وتحول البارادايم إلى التفكير العلمي، وما تلاها من أفكار التجديد الديني التي حدت من سلطة الكنيسة، وقد جعل ماكس فيبر للحركة البروتستانتية أثراً كبيراً في الاهتمام بالحياة الدنيا والسعي إلى تحصيل السعادة فيها قَبْل الآخرة خلافا للكاثوليكية، ما انعكس على طبيعة الناس في الاهتمام بالحياة والعلم والتجارة.
ويرى بعضهم أن المحرك الأول هو اعتدال النظام السياسي والحد من السلطة الفردية للملوك، فقد استطاع الهولنديون التخلص من الحكم الإسباني وتأسيس دعامات الحكم الجممهوري في الدولة مع نهايات القرن السادس عشر، وتأتي بعدها بريطانيا حين اندلعت الحرب الأهلية التي أوقعت برأس الملك تشارلز الأول منتصف القرن السابع عشر، ومن ثم الثورة المجيدة في 1688م ودخول الشعب ببرلمانه نداً للملك في السلطة.
ويرى آخرون أن العامل الجغرافي لعب دوراً هاماً، فالأمراض والمناخ غير الملائم في المناطق الاستوائية حد من التحضر، بينما ساعدت مناجم الفحم في الشمال على إحداث الثورة الصناعية.
أتكون إحدى هذه التعليلات هي الدافع الأول والأقوى لإحداث الثورة الصناعية؟ لماذا ابتدأت الثورة الصناعية في بريطانيا؟.. يتبع
(الكويت)