الفاتيكان والأردن ومواجهة قرار ترامب

21 ديسمبر 2017

بابا الفاتيكان مرحبا بالملك عبدالله الثاني (19/7/2017/Getty)

+ الخط -
رسالة جديدة وورقة تضاف إلى أوراق عديدة، يستثمرها الأردن لمواجهة قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشأن القدس، تمثلت وقبيل سفر الملك عبدالله الثاني إلى الفاتيكان، بلقاء جمع الملك بقادة الطوائف المسيحية الأردنية والفلسطينية من رجال الدين والنخب والأعيان المسيحيين، في عُماد السيد المسيح في المغطس، وألقى الملك كلمةً أكّد فيها على حماية الإرث المسيحي والإسلامي في القدس، وعلى وجوب الصمود في مواجهة القرار الأميركي.
اختيار المغطس، للقاء عام كهذا في نهاية السنة، قبيل السفر إلى الفاتيكان، كان بمثابة رسالة، إلى الغرب السياسي والكنيسة الغربية أيضاً، ففي كل عام يهنئ الملك الطوائف المسيحية في إحدى مناطق تمركزهم في مدن الأردن، لكنه هذا العام جمع نصارى الأردن وفلسطين معا، وفي مركز ديني مسيحي معتمد عالمياً، وعلى مقربة من القدس، ليتحدث عن الوجود والمصائر المسيحية وحماية القدس ورفض قرار ترامب، في رسالة أيضا أن الأردن الذي آوى المضطهدين، من نصارى حروب العراق والأزيديين والصابئة، مؤهل أكثر من غيره للحديث عن القدس وحمايتها من دولةٍ محتلةٍ عنصرية، ولا ترى وجوداً لغيرها.
هذا التحرّك للملك جزء من سياقات عديدة نهجها لأجل القدس، وبحرارةٍ واضحةٍ وقلق كبير، وطنياً استنهض الشعب واعتز به، وكانت تغريدته واضحة، حين قال إن الأردنيين في مقدمة الأمة، ومن ثمّ بحث عن إجماع عربي، مجرياً اتصالاتٍ عديدة مع المجموعة الأوروبية، ثمَ استقبل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وزار الرياض. وكانت جهته الأهم أنقرة وقمة منظمة التعاون الإسلامي. وها هو يتحرّك لمقابلة البابا ثم يزور فرنسا الرافضة قرار ترامب. وفي المنطقة العربية، لا يبدو أحد من قادتها معنيا، كما هو الملك عبدالله الثاني، المتمتع بالوصاية والمسوؤلية التاريخية على القدس ومقدساتها.

انزعج كثيرون من تحرّك الملك الدولي المؤثر، لقي رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حين زار فرنسا ودولا أوروبية إجاباتٍ أثبتت إثمار موقف الأردن. وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، واضحاً إلى حدّ كبير، فمثلت كلماته صفعة لترامب وللضيف الإسرائيلي، وكشفت جملة المواقف الدولية اللاحقة أن السياق الدولي يرفض قرار ترامب ولا يؤيده، وهذا الموقف الدولي آخذ بالنماء والتفاعل إيجابياً، لصالح دولةٍ فلسطينيةٍ عاصمتها القدس الشرقية.
مع الداخل الفلسطيني، كانت هناك اتصالات أردنية مشتركة، سبقت القرار، منذ أن اتصل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنية، بالملك، في سياق الحدث عن الدور الأردني وتجاوزه في المباحثات العربية مع إسرائيل بشأن ما تسمى صفقة القرن. ومنذ قرار ترامب، أدرك الفلسطينيون أن النصف الآخر منهم شرقي النهر يماثلهم الشعور، وله دماء على أرض القدس، ولا يفاوض الأردن على القدس كصفقة أو صيغة نفوذ أو هيمنة على القرار الفلسطيني، بل لدواعي المصير الواحد والموقف الأخلاقي.
انزعج كثيرون من خطاب الملك عبدالله الثاني في أنقرة، ومن تأييد الرئيس التركي، أردوغان، له، ومنحه لقب حامي القدس والمقدسات. وقد وصلت رسالة أردوغان إلى من لم يحبوا اكتمال الحضور في قمة اسطنبول، لكنها عقدت وأرسلت رسالة مهمة، مفادها بأن الوزن العربي والإسلامي تشكل اليوم في الإقليم بثلاثي أردني تركي إيراني، الأردني بوصفه الوريث والوصي، وتركيا بزعامة السنة، وإيران في تمثيلها الشيعة المسلمين.
ومع أن الأردن لا يرغب بانفتاح كبير، وأعلن دوماً عدم رغبته بهيمنة إيران، وتدخلها في دول عربية، وهو قلق كثيرا من دورها في جنوب سورية، إلا أن قادة إيران تاريخياً يمنحون ملوك الأردن تقديراً عالياً، ومهما كانت العلاقات تضطرب، إلا أن احترام الملالي الأشراف الهاشميين، ورثة العترة النبوية، ظل معلناً حتى ولو اختلفت أجندة السياسة. ومع ثلاثي الأردن وتركيا وإيران، هناك قطر والكويت اللتان أجرت قياداتهما اتصالات مع الملك عبدالله الثاني في سياق رفض قرار ترامب، وهناك دول أخرى حضرت القمة الإسلامية، مثل سلطنة عمان، والقيادة الفلسطينية وتونس والجزائر بتمثيل مختلف الدرجات، وغاب التمثيل الوازن لدولٍ لأسباب لا يمكن تبريرها في حالة القدس الراهنة.
كانت القدس سبب تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، فقد عقد أول اجتماع بين زعماء العالم الإسلامي، بعد حريق المسجد الأقصى في أغسطس/ آب 1969، واختيرت جدة في 1970 مقراً مؤقتا للأمانة العامة، حتى تتحرّر القدس لتنقل الأمانة إليها. كان الملوك، الحسن الثاني والحسين وفيصل بن عبد العزيز، رحمهم الله جميعا، المؤسسين. وللأسف، لم يحضر من نسل المؤسسين في قمة إسطنبول إلا الملك عبدالله الثاني، وجاء رؤساء لا علاقة لهم بالإسلام، مثل الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، لكن لهم علاقة جذرية بالنضال الإنساني وبالحرية ورفض إسرائيل وسياساتها.
يؤكد تحرّك الملك عبدالله الثاني ما ذهب إليه الراحل، وصفي التل، بعد النكسة، حين قال للدبلوماسي والمؤرخ أكرم زعيتر "يجب أن نستعيد القدس (...) فبدون القدس لا نملك شيئاً". نعم كانت القدس وستظل بوصلة الأردنيين وسِفر شهادتهم وبطولاتهم التي نسمع اليوم من يقول إنهم كانوا عرباً من دولة شقيقة ولم يكونوا أردنيين، في محاولة لطمس التاريخ لصالح من يدفع مالا لصناعة تاريخ مزور، وللأسف من خلال قميص القدس.
ولا ينفي هذا كله أن دولاً عربية وإسلامية دعمت القدس والفلسطينيين، واستقلبت قسماً كبيراً منهم، ولهم فضل لا ينسى، لكن الوقت اليوم ليس وقت خطاب المِنّة والعطف، وليس وقت إظهار من دفع أكثر، إنه وقت الجهاد بكل السبل. صحيحٌ أن فلسطين احتلت، وأن النكبة تلتها نكسة، وأن قطار السلام كانت نتيجته هي التي وصلنا إليها، وأن "أوسلو" سبب العِلل كلها.
لكن المهم اليوم إظهار أن الأمة لم تنته، وأن فلسطين توحد وتجمع ما اختلف وتشتت. وفي هذا السبيل، يجب استكمال الوحدة والمصالحة الفلسطينية أولاً. أما دور الأردن نحو فلسطين فمن السخف أن يٌقال إننا بحاجة لمرافعة جديدة فيه، فالتاريخ والوشائج والعلاقات هي تاريخ لجسدٍ واحد.
قلق الأردن اليوم مشروع، لأن الجسد العربي لا يمكنه من العمل كما يجب، ولأن الرهان على حلفاء الأمس أيضا ملتبس، فثمّة صفقات لدى بعضهم أهم من القدس وفلسطين. ودخول إيران وقبولها في محور مواجهة قرار ترامب أيضا لا يمكن للأردن التعويل عليه كثيراً، فهذا معناه استنفار الدول التي ترى إيران خطراً عليها. لذلك قد تعيد اللحظة الراهنة العلاقات الأردنية التركية إلى سياق جديد، وهذا معناه توفير فرصة للأردن للتحرّك بحرية أكثر، بعيدا عن العزلة التي فرضتها عليها تناغمات الرياض والقاهرة أخيرًا، فيما يخص الموضوع الفلسطيني.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.