الغيرة بأثر رجعي

28 يونيو 2020

(أسامة دياب)

+ الخط -
أجهشت الصبية الثلاثينية بالبكاء، وهي تحاول شرح مشاعرها المتناقضة تجاه خطيبها السابق الذي انفصلت عنه أخيرا. بدا الأمر محيرا، كونها أكّدت أنها صاحبة قرار الانفصال الواعي الحكيم والمدروس (كما وصفته)، لقناعتها الراسخة بأن المضي في العلاقة سيكون كارثيا على كليهما، وسوف يؤدي إلى طلاق بشع، يدفع ثمنه أطفالٌ لا ذنب لهم، بسبب تنافر الطباع واختلاف المزاجيْن. قالت، وسط دموعها المنهمرة، إنها حاولت بكل الطرق تذويب الفوارق وتقديم التنازلات، رغبة منها في الحفاظ على علاقة الحب التي جمعتهما سنوات طويلة، لكنها وصلت إلى مرحلة اليأس، بسبب عناده وتشبثه الأحمق بمواقفه وآرائه، وعجزه عن الاعتراف بأخطائه، ورفضه محاولة إصلاح ما فسد من العلاقة. وجدت نفسها تعيد له خاتم الخطوبة، وتتمنى له حياة سعيدة بعيدا عنها. حاول مطولا إقناعها بالتراجع عن قرارها الذي وصفه بالمتسرّع والانفعالي، مؤكّدا عمق مشاعره وصدقها، على الرغم من شوائب ومنغصّاتٍ قد تعترض أي علاقة إنسانية. كرّر محاولاته، غير أنها ظلت مصرّةً على موقفها، ما دعاه إلى الرضوخ لرغبتها والابتعاد، تنفيذا لمشيئتها، وحفاظا على كرامته.
لم تمض بضعة أشهر، حتى التقى فتاة جميلة، وسرعان ما اشتعل الحب في قلبه من جديد، فتقدّم لخطبتها، وهما بصدد تهيئة بيت الزوجية والإعداد لحفل الزفاف. ما أن تناهى الخبر إلى صاحبتنا، حتى انهارت غضبا وحزنا، واتهمته بالجحود والغدر والخيانة، ما أثار استغراب الصديقات، كونها مضت في حياتها هي الأخرى، وثمّة رجل جديد، مناسب شكلا وعمرا ومزايا شخصية، واعتبرنه "عريس لقطة"، عرض عليها أخيرا فكرة الزواج، ثم وافقت بدون تردّد. سألتُها عن مبرّر غضبها جرّاء أخبار خطيبها السابق السعيدة، وهي الموشكة على بدء مرحلة جديدة مع رجل آخر. تلعثمت ولم تجد جوابا مقنعا تقدمه حتى لنفسها، وهي بالمناسبة فتاةٌ واقعيةٌ، لا تنتمي إلى الصنف الحالم الرومانسي الذي يتعلق مرضيا بالرجل، ويعتبره مركزا لحياتها. على العكس تماما، هي معنية بنجاحها المهني، وعلاقاتها الاجتماعية واهتماماتها العامة، بدت لي مصدومةً من نفسها، ومن ردّة فعلها غير العقلانية المناقضة لكل تنظيراتها عن أهمية أن تتميز المرأة بالقوة والاستقلالية، وألا توافق إلا على علاقة متوازنة، لا تخلو من ندّية وتوافق.
كفكفت دموعها بصعوبة، وأخذَت نفسا، وذهبت في تأمل عميق، قبل أن تقول: أنا واثقة تماما من أنني تجاوزت ذلك الحب الذي عصف بي سنوات، وقد اتخذت قرار الانفصال بإرادة حرّة، ليقيني أن تلك العلاقة محكومة بالفشل. ولكن يبدو أن عليّ الاعتراف، أمام نفسي على الأقل، بأنني لست ناضجة عاطفيا، وأنني أنانية واستحواذية إلى درجةٍ مرضيةٍ، بحيث أسمح لنفسي بالشعور بالغيرة بأثر رجعي، ما يؤكّد أنني غير مؤهلة لزواج مستقر، ما دمتُ لم أتخلص من شوائب الماضي، ليس من العدل أن أورّط رجلا آخر معي، قبل أن أتحرّر من عقدي النفسية، كي لا أكرّر النمط نفسه. وهذا أمرٌ يتطلب مواجهةً شجاعةً مع الذات. سأرسل باقة وردٍ كبيرة إلى العروسين، وأصارح خطيبي، بكل صدق ووضوح، بما يجول في داخلي من مشاعر غبية متناقضة. وإذا كان يتمتع بشيءٍ من الحكمة وبعد النظر، سوف يهرب ناجيا بنفسه من جحيمي المحتمل. أما إذا اتضح أنه مغامر بما يكفي، فلن يتردّد لحظةً في الاقتران بي تحديدا، من أجل مشاعري الغبية المتناقضة، ولكن العفوية الحقيقية في جميع الأحوال.
دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.