ليست الغيرة مجرد انفعالات غريزية فطرية في الإنسان، بل هي مشاعر مركبة يصعب السيطرة عليها والتحكم فيها في كثير من الأحيان، وهي بصيغة أخرى نوع من التقدير المبالغ فيه للذات، يميل صاحبها إلى تصديق مقولة "أنا الأحق، وأنا الأجدر، وأنا الأفضل"، هذه "الأنا" التي تتحول في كثير من الحالات إلى اضطرابات مرضية وغيرة شديدة، تحرم أصحابها السلام الداخلي والرضا والثقة في النفس.
سعاد شابة انتابها هذا الشعور مراراً، إذ أحست بغيرة شديدة حين قرأت تهنئة ميلاد من صديقتها المقربة إلى صديقة مشتركة عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فحاولت أن تتحكم في مشاعرها، لكن صوتاً داخلها كان يردد أنها الأجدر والأحق بهذه المحبة والصداقة وحتى تلك الكلمات.
إن الغيرة بهذا التوصيف هي "شعور مركب ومعقد يجمع بين حب التملك والخوف من فقدان الشيء والرغبة في الحفاظ عليه في آن واحد"، بحسب ما يوضح المختص في علم النفس الاجتماعي المغربي، مصطفى الشكدالي، وهي أيضا "الرغبة التي تسيطر على الشخص في حصول على شيء يملكه غيره، وأحيانا سلبه تلك "النعمة"، وهي بهذا المعنى قريبة من الحسد كردّ فعل لاشعوري يصعب التحكم فيه".
ويشير الشكدالي في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى "أن الغيرة ممكن أن تكمن داخل مؤسسة الزواج، وفي الوسط الأسري، وبين الإخوة، والأصدقاء، وفي فضاء العمل أيضا"، ويلفت إلى أنها تكون مقبولة ومستحبة أيضاً إذا كانت دافعاً نحو المنافسة والسعي نحو الأفضل، في حين تصبح غيرة شديدة ومستهجنة إذا تحولت إلى سلوكيات مرضية تحركها العدائية.
أسباب الغيرة وأعراضها
تنتج الغيرة نتيجة عدة أسباب، وفي مقدمتها التربية والنشآة الاجتماعية التي ترتكز في معظم المجتمعات العربية على الاتكالية والتبعية، الشعور بالنقص والتقصير، عدم تقدير الذات، حب التملك للأشياء والأشخاص، فقدان الثقة في النفس، غياب الأمان والاستقرار العاطفي.
ويشير الشكدالي إلى أن هذه العوامل إذا اجتمعت جعلت الفرد متأهبا للشعور بالغيرة، التي قد تتحول في كثير من الأحيان إلى غيرة شديدة، تغرق صاحبها في دوامة أفكار وتخمينات يحركها الشك وكثرة السؤال، والمراقبة المستهجنة والتضييق على الآخر وغيرها من السلوكيات غير المقبولة اجتماعيا.
الغيرة الشديدة..عمياء وحارقة
يقول الشكدالي لـ "العربي الجديد"، إنّ الإنسان السوي، لا يجعل من نفسه مركزا للعالم، ولا يستقوي بالسيطرة على الآخر، ومتى هيمن عليه هذا الشعور الداخلي، تتحول الغيرة من شعور متحكم فيه إلى مرض، وربما إلى نار تحرق الأخضر واليابس"، ويستدل على ذلك بمحاولات القتل والانتحار التي تحركها الغيرة الشديدة "العمياء" في العلاقات العاطفية على وجه الخصوص.
ويلفت المختص إلى أن هذه الغيرة الشديدة تدمر العلاقات، لأنها ترتكز على التبعية العاطفية وإقصاء الشريك (الزوج/الزوجة)، وتسقط عنه كل صفات كينونته واستقلاليته، ويصبح تابعاً، والشخص الغيور بهذا المعنى يحرق عاطفياً، لأنه لا يطلب الوفاء بل الولاء.
غيرة الطفل والراشد
إذا كانت الغيرة شعورا فطريا يبدأ في مراحل مبكرة، فإنها تظهر عند الأطفال بدرجات متفاوتة بداية بالعلاقة بين الوالدين (الأب والأم) والإخوة، ورفاق الحي، والحضانة، وأيضا في الارتباط مع ألعابهم.
وتبرز مشاعر الغيرة عند الأطفال لحظة الشعور بالحرمان من شيء أو شخص، أو انسحاب الاهتمام من الطفل والتهميش، وخاصة من الأم لمولودها الجديد أو زوجها العائد من السفر، أو ابنتها المتفوقة دراسيا، وأيضا عند المفاضلة بين الأبناء، كثرة المديح للإخوة أو الأصدقاء أمام الطفل وإظهار محاسنهم أمامه.
ويوضح الشكدالي أن "غيرة الطفل فطرية يحركها التمركز حول الذات، إذ يتفق علماء النفس على أنّ الطفل في مرحلة الطفولة يكون غير قادر على التمييز بين الأشياء الذاتية وبين الأمور الموضوعية وبالضرورة، يعتقد الأطفال أن من يختلفون معهم في الآراء يكونون إما مخطئين أو لا وجود لهم من الأساس". ومن هذا المنطلق تنمو في دواخلهم هذه الانفعالات التي تظهر في سلوكيات وتصرفات عديدة تتطلب الانتباه إليها بالتوجيه والحب وزرع الثقة في النفس مخافة أن تتحول إلى سلوكات عدائية.
ويتابع " ينقل الطفل طاقته مع تطور مراحل نموه من موضوع إلى آخر، فتتحول غيرته مثلا على لعبة (سيارة، مسدس، دمية) إلى شقيقه أو صديقه...، وهذا الطفل سيصبح راشدا، وقد يتخلص من هذه الغيرة المتمركزة على الذات أو قد يفشل في ذلك، فيقع له ما يسميه علماء النفس بالتثبيت Fixation (أي احتجاز جزء من الطاقة النفسية في مرحلة معينة من مراحل النمو ومنعها من التطور).
وبحسب الدكتور الشكدالي، فإن الغيرة الشديدة أو المرضية عند الراشد تبدأ عندما يتعامل مع الشخص سواء كان شريكا أم صديقا أم أخا بمنطق التشييء، والأحقية والتقدير المبالغ فيه: "هذا لي ومن حقي".وما يحرك الشعور بالغيرة هنا هو الخوف من التخلي والفقدان.
ضريبة الغيرة وعلاجها
للغيرة ضريبة، قد تكون قاسية في كثير من الأحيان، فعدا عن كونها تحرم صاحبها حالة السلام الداخلي والرضا عن النفس، فقد تكون لها عواقب اجتماعية وخيمة، تصل إلى الطلاق، فقدان العمل، تخلي الأصدقاء، الإدمان، ممارسات خاطئة واقتراف الجرائم كالقتل والحرق والانتحار.
ويرى الشكدالي، أنه ليس هناك من وصفة سحرية لعلاج الغيرة الشديدة أو المريضة، غير أن هناك مسارا إذا ما اتبعه الإنسان يستطيع ضمان العيش بتوازن في محيطه، ويتضمن هذا المسار تعزيز الثقة في النفس والشريك، منح المسافة الكافية للآخر وعدم تجريده من خصوصيته، الابتعاد عن الشك، طرد الأفكار والتصورات الجاهزة.
الغيرة الافتراضية
يتطرق الشكدالي إلى نوع آخر من الغيرة التي برزت مع التطور التكنولوجي، ويتعلق الأمر بـ "الغيرة الافتراضية"، المرتبطة بمواقع التواصل الاجتماعي والإدمان عليها، والميل إلى تصديق أن ما يقع فيها يكتسي صبغة واقعية، أو هو ربما مقدمات لأن يتحول من الافتراضي إلى الواقعي.
ويذكر الشكدالي في هذا الصدد بعض الأمثلة عن ذلك، غيرة الأصدقاء من نجاحات بعضهم عبر الصور التي ينشرونها، غيرة الزوجة من إعجاب زوجها بصورة فتاة أو وضع أيقونة قلب لها أو كتابة تعليق، وقد يصل الأمر إلى محاصرته بالأسئلة عنها وتاريخ التعرف عليها، والأمر نفسه ينطبق على الزوج الذي يمنع أحيانا عن الزوجة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي أو يمنحها موافقة مشروطة بعدم التفاعل مع الرجال أو وضع صورها..
وقد اهتمت العديد من الدراسات بالأمراض الناتجة عن سوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ومن جملتها "الغيرة"، إذ يثير نشر صور الأصدقاء وهم سعداء ومبتهجون الغيرة لدى البعض من نشطاء هذه المواقع، وتتولد لديهم مشاعر بأن الآخرين يعيشون أفضل منهم ويسافرون ويتمتعون، وهو شعور داخلي سلبي قد يدفع أصحابه إلى الوقوع في دوامة الاكتئاب أو محاولات الانتحار..