انقسامات شائكة
أمام مجموعة من التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية، يحتاج الاتحاد الأوروبي، بأعضائه السبعة والعشرين، من دون بريطانيا بالطبع، إلى الوحدة والتجمع بدل الانقسامات التي تساهم في مزيد من تقويض البناء الأوروبي.
فقد أصبحت ملفات اللاجئين والحفاظ على دولة الحق والقانون، ولا سيما في دول شرق أوروبا، مواضيع ينقسم حولها الأوروبيون الذين باتوا يفتقرون إلى رؤية مشتركة لمستقبلهم. يحدث هذ الأمر على الرغم من قرار القادة الأوروبيين، بعد صدمة خروج لندن من الاتحاد، بضرورة إعطاء دفعة جديدة للمشروع الأوروبي، إذ كانوا قد أطلقوا "خارطة الطريق حول مستقبل الاتحاد الأوروبي"، في قمة براتيسلافا/سلوفاكيا في 16 سبتمبر/أيلول 2016. لكن بروز توافق في الآراء بشأن مجموعة من الملفات كالأمن والسياسة الدفاعية لم يمكّن من تفادي الاختلافات في عدد من الموضوعات الأساسية الأخرى التي لا تزال تخضع للمصالح الوطنية المختلفة.
ويشكل المجال الاجتماعي، مثلاً، خط صدع حقيقي بين الغرب الذي يشعر بمنافسة على نحو غير ملائم من الشرق، عبر ما يسمى بالإغراق الاجتماعي. أي تكلفة العمل الرخيصة في الدول الشرقية مقابل امتلاك العمال في الجزء الغربي لحقوق كثيرة تجعل تكلفة العمل غالية.
وفي السياق، يقول الخبير في الشؤون الأوروبية، نيكولا غرو فيرهايد، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "يجب الأخذ بعين الاعتبار تنوع أسباب وطبيعة هذه التوترات بين الدول الأعضاء، ما يجعل من الصعب البحث عن حلول بسيطة وموحدة". ويلفت إلى أن "من المصادر الرئيسية لهذه الاختلافات، على سبيل المثال، التقوقع القومي الناجم عن العولمة الاقتصادية والثقافية وردود الفعل المتباينة إزاء الأزمات العالمية الكبرى، الاقتصادية والأمنية، واستمرار التباين في التنمية الاقتصادية بين دول الاتحاد الأوروبي وما يعنيه من ارتفاع حدة الفقر وبروز أزمات اجتماعية في عدد من البلدان. ويضاف إلى ذلك الاختلالات الخطيرة في منطقة اليورو التي تهدد بلدانا بكاملها كاليونان". ويشير الخبير في الشؤون الأوروبية إلى أن "الطلبات المتزايدة للاتحاد الأوروبي لاتخاذ القرار في مجالات جديدة وحساسة، كالهجرة والشؤون الداخلية وغيرها، تدفع بالمواطنين إلى بالشعور بفقدان دولهم للسيادة. أمر تستفيد منه الحركات الشعبوية للمطالبة بالخروج من الاتحاد أو تقزيم دوره".
مواقف المؤسسات الأوروبية
وكانت المؤسسة الأوروبية الأولى التي عبرت عن موقفها بشأن ضرورة تجاوز هذه الانقسامات والخلافات للحفاظ على تماسك البناء الأوروبي تتمثل في البرلمان الأوروبي، المعروف بتنوع وجهات النظر داخله والذي يعد صوت الشعوب الأوروبية، لأن المواطنين يصوتون بشكل مباشر لانتخاب أعضائه. فقد اعتمد في 16 فبراير/شباط الماضي، ثلاثة قرارات مختلفة بشأن تطور الاتحاد الأوروبي في المستقبل. يسعى القرار الأول إلى تحسين أداء المؤسسات على أساس معاهدة لشبونة المطبقة حالياً. بينما يدرس الثاني إمكانية إصلاح أساسي من شأنه أن يجعل، على سبيل المثال، من المفوضية الأوروبية، الجهاز التنفيذي الحالي للاتحاد، "حكومة" وينشئ منصب وزير أوروبي للمالية وميزانية خاصة لمنطقة اليورو. أما القرار الثالث فقد ركز على تعزيز منطقة اليورو عبر جعل اقتصادات دولها أكثر مرونة من خلال استراتيجية للتقارب.
المفوضية الأوروبية، من جهتها، قدمت في مطلع مارس/آذار الحالي، الكتاب الأبيض المعنون "أفكار وسيناريوهات لاتحاد أوروبي بـ27 عضواً بحلول عام 2025". تضمنت الوثيقة خمسة سيناريوهات لمستقبل أوروبا. وتدعو الوثيقة القادة الأوروبيين إلى "سد الفجوة بين الوعود والواقع"، وتوضيح دور الاتحاد الأوروبي. وتشدد على أنه يجب الاختيار بين منح الاتحاد كافة الوسائل لمواجهة التحديات الكبيرة أو القبول بفكرة تدخل أدنى من قبله.
ويقترح السيناريو الأول مواصلة الجدول الزمني للإصلاحات المتفق عليها حالياً، تطبيقاً للوثيقة المعتمدة من قبل المفوضية في 2014 بعنوان "دفعة جديدة لأوروبا" ومبادئ إعلان قمة براتيسلافا المعتمدة في سبتمبر/أيلول من العام الماضي من قبل الدول الأعضاء. وينطلق السيناريو الثاني من فكرة أن الدول الأوروبية غير قادرة على إيجاد أرضية مشتركة في عدد متزايد من المجالات ليدعو إلى التركيز على تعزيز السوق الموحدة والمضي قدماً على مستوى ثنائي ومتعدد للعمل حول القضايا السياسية. ويسمى السيناريو الثالث "أوروبا بسرعات متفاوتة". ويقترح الإبقاء على اتحاد بـ 27 عضواً مع السماح للدول التي ترغب في المضي قدماً معاً في مشاريع محددة. والدول التي لا تشارك في هذه المبادرات في البداية يمكن أن تقرر الانضمام في وقت لاحق. وللدفاع عن هذا السيناريو شدد رئيس المفوضية، جون كلود جونكر، على أن "الاتحاد الأوروبي لا يسعى إلى تغيير المعاهدات. فالمعاهدات المطبقة حالياً ستظل كذلك لمدة طويلة. وعندما نتحدث عن تعزيز التعاون فهذا يعني أن كل الدول الأعضاء تشارك في النقاش ولكن فقط التي تريد المشاركة في مبادرة ما يمكنها فعل ذلك". وأضاف "الدول التي لا تريد المشاركة أو التعاون لا يحق لها التصويت فقط ولكن يمكنها المشاركة في النقاش. وهذا يحدث حالياً، ليس فقط في مجموعة اليورو ومجموعة شينغن ولكن أيضاً داخل مجموعة اليورو نفسها".
أما السيناريو الرابع فيقترح إعادة تركيز سياسات الاتحاد الأوروبي بحيث يتم تحديد دقيق لأفضل المجالات التي تقرر أوروبياً، وتلك التي يجب أن تدار على الصعيد الوطني. وأخيراً، يشدد السيناريو الخامس على تعزيز النظام الفدرالي، وذلك عبر توسيع المجالات التي يحق للاتحاد الأوروبي التدخل والقرار فيها، كمجالات مواجهة التغير المناخي والتنمية المستدامة والدفاع. سيناريو قد يواجه مقاومة من قبل المواطنين الذين يعتبرون أن الاتحاد يتمتع بالكثير من السلطة، ولا يمتلك الشرعية الكافية بالمقارنة مع السيادة الوطنية التي تحظى بها الدول الوطنية.
قمة الفرصة الأخيرة
تفادي أي انقسام لوحدة الاتحاد الأوروبي هو ما سيحاول الزعماء الأوروبيون تحقيقه اليوم خلال نقاشهم حول مستقبل الاتحاد. فقد اكتفى القادة الأوروبيون، خلال قمتهم الأخيرة في بروكسل في 9 – 10 مارس/آذار الحالي، بالتأكيد على وجود اتفاق على النقاط الأساسية للبيان الخاص بالاحتفال بمرور 60 عاماً على ميثاق روما.
وإذا كانت الوثيقة الرسمية تنص على أن الاتحاد الأوروبي يظل موحداً بعد "بريكست"، لا تزال النقاط التي تثير جدلاً هي تلك المتعلقة بتعزيز "أوروبا بسرعات متفاوتة"، كما تطالب كل من ألمانيا وفرنسا بدعم من إسبانيا وإيطاليا فيما ترفضها مجموعة من الدول التي تشعر بالقلق من أن تصبح أعضاء من الدرجة الثانية في الاتحاد.
وفي السياق، يقول الخبير في الشؤون الأوروبية، نيكولا غرو فيرهايد، "بالطبع لن يتم تغيير المعاهدات الآن، لكن معاهدة أمستردام التي وقعت قبل عشرين عاماً، تنص على السماح لعدد قليل من الدول بالمضي قدماً في مشروع أوروبي ما. وتوجد حالياً بعض الاتفاقيات التي اعتمدت على هذه المعاهدة. ويبدو أن الدول الأعضاء ستعمل على تعزيز هذا التوجه ليصبح القاعدة". ويلفت إلى أنه "يتمنى القادة الأوروبيون أن تطغى الإرادة الإيجابية على القمة وروح روما جديدة قادرة على تخفيف حدة التوتر وإعادة الثقة للمواطنين الأوروبيين في هذا البناء، للشعور مرة أخرى بالتضامن والأمن".
وينتظر أن يظل إعلان روما مفتوحاً لاحتواء الاختلافات وترك الباب مفتوحاً أمام استمرار النقاشات حول مستقبل أوروبا، ولا سيما أن القادة الأوروبيين قرروا عقد قمة في 29 أبريل/نيسان المقبل لبحث إدارة ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد أن أعلنت لندن أنها ستعمل على تفعيل المادة خمسين من معاهدة لشبونة، المتعلقة بفك الارتباط بالاتحاد، في 29 مارس/آذار الحالي. فإذا كان "بريكست" لا يعني نهاية الاتحاد الأوروبي، كما يردد الزعماء الأوروبيون، إلا أنه يشكل جزءاً هاماً من الأزمة الحادة التي يعيشها الاتحاد والمتعلقة بمستقبله وتهدد وجوده.