العنف لا يخص داعش فقط

01 فبراير 2019
+ الخط -
مُنِيَت آخر مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قبل أيام، في بلدة الباغوز الفوقاني في محافظة دير الزور السورية، بالهزيمة على يد تنظيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردي. ولكن الهزيمة الجديدة هذه رمزية، فقبل أكثر من شهر، قرر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوة الأميركية من سورية باتجاه العراق، معلنًا أنّ القوات الأميركية لن تلعب دور "شرطي" العالم بعد ذلك، وأنّ العدو المحلي لتنظيم داعش هم إيران وروسيا وسورية، ولن تقوم الولايات المتحدة بدورهم بالنيابة عنهم.
هنا علّق كثيرون أنّ عنف "داعش" لم يكن مسبوقًا، فهو من ارتكب المجازر المروّعة وألقى ضحاياه في مقابر جماعية. بالتأكيد، يكاد تنظيم داعش يكون أكثر من بثّ الرّعب في العالم أجمع في السنوات الخمس الماضية، نتيجة عنفه الشديد. ولكن: هل كان عنف "داعش" غيرَ مسبوقٍ بالفعل؟ هل لم يسبقه أي عنفٍ آخر من نوعه؟ ماذا عن "قسد" التنظيم الذي أُوكلَت إليه حرب "داعش" نيابةً عن الولايات المتحدة؟ ماذا عن الجيش الأميركي، والقتل الجماعي الذي تسبّب به، فسماه "أضرارًا جانبية"؟ ماذا عن نظام الأسد والجيش الروسي الذي لم يستطع ولم يرد أحدٌ إيقافه في مجازره المروّعة الجوية والبرية التي كانت تُبثّ على الهواء مباشرة في غرور لا مبالٍ؟
فيم يختلف عنف "داعش"؟ يشترك هذا العنف كله مع عنف "داعش"، ولكنّ الأخير يختلف
 عن عنف باقي هذه الدول والتنظيمات في أنه يرسل شررًا منه خارج جغرافيا القتل المحلية، فحين بدأت الولايات المتحدة حربها على "داعش" عام 2014 عاقبها "داعش" بضرب أهداف مدنية في أوروبا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى آسيا وإيران وروسيا. زادت تلك الحوادث على 55 منذ 2014، وذهب ضحيتها مئات القتلى والجرحى. وربما لم تنجُ أراضي ومواطنو أيٍّ من الدول التي شاركت في الحرب العالمية على الإرهاب من حادث انتقامي نفذته واحدةٌ من خلايا "داعش" أو أحد "جنودها" كما تسميهم دائمًا.
وبالإضافة إلى هذا الاختلاف الأساسي، يختلف عنف "داعش"، من جهة أخرى، بظاهرة تمجيد العنف، ففي حين ينتج هذا التنظيم الأفلام تلو الأفلام التي تصور عنفه، وتضخّمه عشرات المرّات، تحاول كل دولةٍ، وكل مجموعةٍ ترتكب عنفًا مشابهًا، المداراة على هذا العنف وتصغيره، وأحيانًا إخفاءه وإنكاره كأنه لم يكن. مثال ذلك، يتهرّب البيت الأبيض كثيرًا في إصدار تقارير بشأن عدد ضحاياه المدنيين في حربه على الإرهاب، ففي العام السابق لم يُخرج البيت الأبيض تقريره المطلوب من الكونغرس بشأن أعداد ضحاياه المدنيين، كما عمدت إدارة أوباما إلى التقليل من الأعداد الحقيقية في حربها على الإرهاب، بحسب تقرير أصدرته "واشنطن بوست" في مايو/ أيار الماضي. وعلى الرغم من هذين الفرقين الأساسيين، فإنّ عنف "داعش" لا يفوق عنف النظام الأسدي و"قسد" والطيران الروسي والجيش الأميركي في المجازر المحلية والمقابر الجماعية، فكلّ هذه التنظيمات ارتكبت مثل هذه الحوادث. كما أن ظاهرة تصغير العنف، أو إنكار قتل الضحايا المدنيين، لا تقل جرمًا عن ظاهرة تضخيم العنف والافتخار بقتل الضحايا.
السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرَح ليس إن كان عنف "داعش" مسبوقًا أم لا، بل هو شرعية استخدام العنف وقانونيته. وهذه الشرعية والقانونية حديثة مبنية على نظرية السيادة في الأصل. فعلى سبيل المثال، حرب الولايات المتحدة، ومن ينوب عنها، ضدّ "داعش" شرعية بحسب الواقع، ولذا، فأيّ مجازر جماعية أو عملية قتل جماعي تحدث من الجيش الأميركي هي بمثابة أضرار جانبية بحسب النظام الدولي، ولا تعدّ جرمًا أصليّا. وكذلك فإنّ روسيا وإيران اللتين 
ترتكبان مجازر جماعية عديدة، جوية وبرية، ضد الشعب السوري، دولتان شرعيتان. ولكن شرعية النظام السوري هي ما أصابها الارتباك. إلا أنه بحسب الواقع، لا يزال هذا النظام يملك قدرًا من الشرعية، فبعد وقت قليل من بداية الثورة السورية، أقرّت الولايات المتحدة أنّه لم يعد شرعيًا، في حين أيدته روسيا وأيدته الصين، وهما من الدول التي لها حقّ الفيتو (النقض) في مجلس الأمن، أي الحق في تقرير القضايا المصيرية للعالم. ولكن على الرغم من تقريرها في بداية الثورة السورية أن سقوط النظام مسألة منتهية، بل ودعمها فصائل سمتها "معتدلة"، ودعمها الفصائل الكردية، فإنّ الولايات المتحدة لم تتحرّك تحركًا جذريًا بإزاء النظام السوري، كما تحركت بإزاء "داعش"، لتقديرها أنّ عنف النظام السوري لا يهدّد الأمن القومي الأميركي. أمّا "داعش" فلا خلاف على عدم شرعيته، بل هناك إجماع دولي على عدم شرعية وجوده، وبالتالي شرعية الحرب عليه، وقبول ارتكاب أي حوادث قتل جماعي على هامش هذه الحرب المقدسة، واعتبارها أضرارًا جانبية. ويكاد هذا التجاوز تنعم به كل دولة وقوة شاركت في الحرب على الإرهاب.
في النهاية، لم يأت "داعش" من كوكب آخر، بل نبت هنا، وعنفه مسبوق بكثير من المجازر التي ارتكبتها كيانات شرعية.
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر