سمّى الغزاة الأوروبيون أنفسهم مكتشفين في أميركا وأفريقيا وأستراليا. يقال إن الهنود الحمر حسبوا الرجال البيض موتى راجعين إلى الحياة، وعندما شاهدوا تصرفاتهم تيقّنوا من أن هؤلاء الشاحبين قد عادوا لينتقموا. نصّبت الأقلية البيضاء نفسها سيّدة العالم، وعبر الحروب والقتل تربّعت على المرتبة العليا في سلّم البشر؛ وإذ لم تعد حجج جهابذة الكهنوت كافيةً للبرهنة على دونية الأعراق الأخرى، وإذ ما عاد أحد تقريباً يصدّق أن الزنوج هم أبناء الشيطان، وهم وقود جهنم، فحمها وحطبها، حمل رجال العلم مشاعل الحقيقة، وأثبت المشرّحون بالدليل العلمي إن أصحاب البشرات الوسخة دونيّون، وكان الدرك الأحطّ من نصيب الزنوج الأفارقة. السود أسفل السافلين حتّى في الجحيم، العمال الرخيصون في قبو الحضارات واللامرئيون في ليل مناجمها. كرّس علماء أوروبيون وقتاً ليبيّنوا إن المقدرات الذهنية لدى الأفارقة الزنوج ضعيفة، لأسباب بيولوجية وتشريحية بحتة، وليس آخرهم جيمس واطسون مكتشف سلسلة الـ DNA.
عرّف أرسطو العبيد وحدّد دورهم بوصفهم سلعاً، من دون أن يحدّد لون البشرة. إنها حقب الاستعمار الأوروبي التي وطّدت صورة العبد بوصفه زنجياً. كان ملوك أوروبا، مؤزّرين بكهنتها، يدرجون العبيد مع البضائع في السجلات ويطلقون أيدي النخاسين، والعبد بخس لأن أشباهه كثيرون، والسعر دائماً يحدّد القيمة. حرّرت الثورة الفرنسية عبيد المستعمرات، إلا أن الاتّجار بهم لم يتوقف. النخّاسون الفرنسيون المغرمون بالحرية أطلقوا على سفنهم أسماء تنويرية مثل فولتير وروسو؛ نخّاسون آخرون رحماء عمّدوا سفنهم بأسماء القديسين وزيّنوها بشعارات المساواة وحب الإنسان. اعتبر هيغل أفريقيا مكاناً بلا تاريخ، قاطنوه ضروريون فقط لدراسة البربرية والهمجية. لقد أثرى الأوروبيون ميراث العبودية وروّجوا النخاسة كتجارة كبرى، وإلى الآن، وراء أقنعة أخرى، المقايضات والصفقات مستمرة بين تجار الرقيق بألوانه المختلفة عبر العالم، فيُعطى الأفارقة الأناجيل مقابل البلاتين والألماس والعاج.
استوردت أميركا ملايين الزنوج، وما من مؤرخ أحصى بدقة عدد الذين قضى منهم خلال الرحلات البحرية أو بعد الوصول إلى أرض الأحلام، مثلما يُغفَل عادة أن معظم الجنود الأميركيين الذين قضوا في إنزال النورماندي كانوا سُوداً. أشهر إعلان الاستقلال الأميركي إن جميع البشر يولدون متساوين، ثم استدرك المشرعون توضيحاً يفيد بأن كل عبد يساوي ثلاثة أخماس شخص؛ لم يتخلّص الرئيس جيفرسون من شكوكه بأن الزنوج أدنى من البيض في كلّ شيء، وأبدى اشمئزازه دائماً من أي اختلاط بين دماء هذين العرقين. كان أبراهام لينكولن يعلم بالطبع إن البيت الأبيض قد شيدته الأذرع السود؛ ألغى العبودية وخسر حياته.
لا تنتهي العنصرية بسنّ القوانين فحسب. الشاعر الأميركي الأسود ليروي جونز (أميري بركة)، المتوفى العام الفائت، أورد في قصيدة صفات اتُّفِق على إلحاقها بـ "الزنجي": "كسول/ مذعور/ سارق/ فحل جنسياً/ مخيف/ دونيّ في العموم". وكتب أيضاً: "أنا داخل شخص يكرهني. أنظرُ من عينيه. أشمُّ أي ألحان نشاز تأتي إلى أنفاسه. أحبُّ نساءه المحطمات". شباط، أقصر شهور السنة، هو شهر التاريخ الأسود في أميركا (أو، بترجمة أخرى، شهر تاريخ السود). يُحتفى هذا العام بثلاثة كتّاب، هم جيمس بالدوين وريتشارد رايت وتشستر هايمز، هجر ثلاثتهم الولايات المتحدة في لحظة عسيرة من تاريخها العنصري في الخمسينيات، واستقروا في باريس، وكانوا غرباء في أرض غريبة، إخوة في المنفى.