العميقون والكتب المضادّة

24 مارس 2015
+ الخط -
لم أكن أعرف أحداً يجيد اللغة اللاتينية في دمشق. قصدت سفارة الفاتيكان هناك، حيث أخبرني راهب مسنّ نسيت اسمه كيف أترجم بعض العبارات اللاتينية في "كتاب الكائنات الخيالية" لخورخي لويس بورخيس. لم يكن بسام حجار قد نشر آنذاك ترجمته المجتزأة للكتاب نفسه تحت عنوان "كتاب المخلوقات الوهمية"، وفيه نص "عبّاد الماضي" الذي ترجمه الراهب إلى "مدّاحو الأزمنة الغابرة"، ويشير المؤلف فيه إلى كتاب ألّفه ربّان برتغالي، متحدثاً عن طائفة شرقية أو آسيوية تعبد الماضي. بالنسبة إلى هذه الطائفة الماضي مطلق، لم يكن قطّ حاضراً، مستحيلٌ تذكّره، مستحيلٌ تخيله، ولا يمكن للعبدة أن يثبتوا أو ينكروا أي شيء يتعلق بأهل الماضي. يلاحظ الربّان اليأس المطبق لهذه الطائفة، إذ لا فكرة لدى الماضي عمّن يعبدونه، ولا يستطيع أن يمدّهم بأي عون أو راحة نفس.
اهتمّ معظم المفكرين العرب بالماضي، بل أولوه جلَّ الاهتمام. مئات المؤلفات الرصينة خلال القرن العشرين جادلت التراث الإسلامي، وكانت كتباً ضدّ كتب أخرى، نزالاً مع موتى. الفكر الوعر هاجم الفكر المتحجّر، وأحياناً كانت النصوص التي انتقدها المفكرون أكثر إمتاعاً من انتقاداتهم لها. يعرف القرّاء عشرات الأسماء أصحاب مشاريع ثقافية كبرى ناهضوا سلطة الماضي، ولا يتسع المقال لتعدادهم، يجمع بينهم الحزم والجدّ والانضباط الذي قد يُرى يأساً مقلوباً؛ انزووا في مشاغلهم واعتصروا من الكتب كتباً مضادة، بكلّ مساوئ القراءة المفرطة التي قد تهدّد بجعل أفكارنا منحولة. هؤلاء المفكّرون شيّدوا نقدياً الفكر الموصوف بالمغاير، وهذا الفكر يسود فئة ضيقة من عالم عربي مرهق حيث قبائل القرّاء شتى، وريادة الرجعيين ماثلة للعيان. قد نقرأ من يصف عملاً لمحمّد عابد الجابري أو محمّد أركون بأنه "عميق" أو "مثير للجدل"، ولا يقال بالطبع إنه أخاذ أو شيق، لأن الفكر ليس أدباً، إنه لا يقرأ اللاهوت كنوعٍ من الأدب الفانتازي، وجفاف الأسلوب جزء من طبيعته. فليجهد القراء أنفسهم إذا أرادوا أن يستوعبوا، وليثمّنوا جهود المؤلفين وتفانيهم وغزارة محاصيلهم.
ألا تعسر قراءة هذه الأعمال النقدية الجذرية، أو بالأحرى قد لا تُقرأ؟ من أين تستمدّ سطوتها؟ وما هي الأضرار التي خلّفتها على القرّاء؟ ماذا لو كانت بدورها مغالطات تاريخية وهدراً جاداً للوقت، فنرى من يعود في سنواته الأخيرة، مثل عبد الرحمن بدوي، إلى الدفاع عن القرآن ضدّ منتقديه؟ ألأن موضوعيتها تخضع لأنا متوارية متسلطة تجنّد كل شيء في صناعة نفسها، أي صناعة الكتب بالمواظبة على الكتابة، بشيء من القسر وإكراه النفس أحياناً؟ ألا يبدو ذلك عملاً آلياً متقن الصنعة، تطبيقاً لمناهج مستعارة؟ إنها على الأرجح ألمعية المثابرة، وربما إثارة الجدل الذي يتلهف إليه الجمهور. الهدف المرجوّ عادة هو فهم الواقع فهماً مختلفاً أو جديداً، وتغييره عبر مؤلفات ليست شعبية ولا تبسيطية، تفترض الوضوح في الأفكار وملاقاة صدى اجتماعي للتفكير، وتفترض كذلك أن ضحايا القمع والجهل هم المحكّمون والمستهدَفون، لولا أن المؤلفين يفكّرون بأشخاص يتعثّرون في الوصول إليهم، وغالباً لا يجاريهم إلا المطلعون أمثالهم، ويقتصر لهيب التنوير على إضاءة المكتبات والقاعات الدراسية وشاشات الكمبيوتر. ربما خمدت جاذبية هذه المنجزات النقدية، وقد تغدو كتباً مهجورة في راهن يصعّب اللحاق بكلّ شيء تقريباً، وإن اتقدت رغبة الجميع في المعاصرة إلى جانب الخشية من الظهور متخلفاً عما يسمى روح العصر.
الجمهور الأوسع لهذه المؤلفات هو الطلبة الجامعيون المعنيون، ينقذون معنى الثقافة بانكبابهم على كتب تعج بالمراجع والإحالات، وتوصف بالمهمّة والإشكالية. لعلّ هؤلاء الطلبة، قليلي الاطلاع وعديمي الحيلة، هم الذين قرأوا حقاً هذه الكتب، ولعلهم الوحيدون الذين ألزمتهم هذه المؤلفات بأي شيء، لأن في جانبها الأكاديمي شيئاً مضجراً وربما منفراً لمعظم القراء. تفرّغوا للكلمات التي استنزفتها الحروب اللفظية، ولاكها الواقع وبصقها في وجوههم، لكنهم على الأقلّ فازوا بتلمّس الشجاعة لدى الأسبقين في مساءلة المقدّسات والمحظورات، ورأوا الجرأة التي لا تهادن المغالطات. احتذى التلاميذ بالأساتذة الذين تصدّروا حركة التقدّم، حَبَوا في ظلال النماذج، وتمرّنوا على استنساخهم وفضحتهم خيبتهم في مضاهاة معلميهم، ثم لم تلبث أقلام المبتدئين والمتلعثمين أن صارت هراوات ولوّحوا بها أمام أبواب المستقبل المقفلة. يعيد التلاميذ إنتاج ما افتتنوا به وأجَلّوه، والإنتاج الفكري في هذه الأحوال خانق وكتيم ودائري حيث يُجر الماضي إلى حلبة الحاضر وتُسلط عليه الأفكار إنارتها الساطعة، والبلدان لا تستفيق من الدم والنوم.
المساهمون