هذه الحرب، وإن بدت أنها تحوّلت إلى مباشرة في الوقت الحالي، بسبب قضية القس الأميركي أندرو برانسون، المعتقل منذ عامين في تركيا، إلا أنها كانت حرباً باردة ممتدة لنحو 15 عاماً، تراكمت خلالها التباينات بين البلدين بسبب العديد من القضايا. وإن كانت أنقرة وواشنطن قد استطاعتا ضبط الخلافات والحفاظ على العلاقات بينهما، إلا أن الوضع تفاقم في الآونة الأخيرة، أخذاً بعين الاعتبار التطورات الجديدة في الولايات المتحدة من جهة، خصوصاً ما يتعلق بسيطرة تحالف المحافظين الجدد مع الإنجيليين، فضلاً عن التحوّلات التي حدثت في تركيا في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، إلى جانب موقف تركيا المتباين مع أميركا حول أبرز القضايا الإقليمية، بدءاً من "صفقة القرن" وإسرائيل ودعم الفلسطينيين، مروراً بسورية والعراق.
أما مآلات الحرب بين البلدين، فتبدو غير محسومة، في ظل تمسك الطرفين بالمضي قدماً في المواجهة، خصوصاً بعدما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس السبت، أنه سيتصدى للتهديدات الأميركية، مستنداً على ما يبدو إلى عدد من نقاط القوة/ الضغط، بما في ذلك التلويح بالتخلي عن الشراكة مع الولايات المتحدة، كما ألمح صراحة.
ولاقى رئيس البرلمان التركي بن علي يلدريم، رئيس البلاد بقوله في تغريدة على "تويتر": "نرى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة تتحول إلى حرب اقتصادية عالمية"، قبل أن يلفت إلى أن "المواقف العدائية التي استهدفت إيران ثم روسيا والآن تركيا في منطقة أوراسيا الواعدة، لن تعيق التعاون والتضامن بين دولنا". وتابع قائلاً "على أميركا التي لا حليف لها سوى الدولار، أن تعلم ذلك".
وقبلها بساعات نشر أردوغان مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، حذر فيه الولايات المتحدة، مانحاً إياها مهلة لتصحيح العلاقات. وقال الرئيس التركي في مقاله إن الخطوات أحادية الجانب التي تتخذها الولايات المتحدة ضد تركيا تلحق الضرر بمصالح أميركا وأمنها فقط، وإن على "واشنطن أن تتخلى عن فكرتها الخاطئة بأن العلاقات بين الطرفين يمكن أن تكون مخالفة لمبدأ الند للند، وأن تتقبل وجود بدائل أمام تركيا"، مؤكداً أنه "في حال لم يبدل المسؤولون الأميركيون هذه النزعة أحادية الجانب والمسيئة، فإن أنقرة ستبدأ بالبحث عن حلفاء جدد"، مذكّراً بأن بلاده "هرعت لمساعدة الولايات المتحدة في كل وقت على مدى أعوام".
ولفت أردوغان إلى أن "الشراكة بين البلدين واجهت في الآونة الأخيرة اختباراً بسبب خلافات سبّبتها الولايات المتحدة، وأبدى أسفه لأن جهود بلاده "لتصحيح هذا التوجّه الخطير ذهبت أدراج الرياح، وإن لم تستطع الولايات المتحدة إثبات أنها بدأت باحترام السيادة التركية، وتفهم المخاطر التي يواجهها شعبنا، فإن شراكتنا قد تكون عرضة للخطر".
وفي استعراض للمآخذ التركية على الولايات المتحدة، اتهم أردوغان واشنطن بعدم إدانة المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016، واكتفائها بلغة متحفظة بالدعوة إلى "استمرار الاستقرار والسلام في تركيا". وشدّد الرئيس التركي على أن الولايات المتحدة أقدمت في الأيام الماضية على خطوات كثيرة من أجل تصعيد التوتر مع بلاده، متذرعة بحبس مواطنها أندرو برانسون المتهم بتقديم المساعدة لمنظمة إرهابية. وأشار إلى أنه "نبّه نظيره ترامب إلى ضرورة احترام عمل القضاء، إلا أن الولايات المتحدة عوضاً عن ذلك نشرت تهديدات تتجاوز الحدود ضد شعب صديق، وفرضت عقوبات على عدد من الوزراء الأتراك"، قائلاً إن "تركيا حددت مهلة زمنية، وإن لم تصغِ الولايات المتحدة إليها، فإنها سوف تحل مشاكلها بنفسها".
وإذا كان مقال أردوغان قطع الشك باليقين بأن هناك مواجهة مباشرة بين الطرفين عبر ملفات متعددة، فإن شكل المواجهة يتخذ أبعاداً عديدة، تحضر فيها عوامل سياسية وتاريخية وجغرافية واقتصادية، خصوصاً أن هذه العوامل ساهمت في تطور المواجهة التركية الأميركية خلال السنوات الماضية.
الاحتلال الأميركي للعراق
يمكن اعتبار الاحتلال الأميركي للعراق بداية المواجهة الممتدة لأكثر من 15 عاماً، هي فترة حكم أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية". وقتها رفض البرلمان التركي الذي يسيطر عليه هذا الحزب، المذكرة المعدة بين الجيشين التركي والأميركي للتعاون في حرب إسقاط حكم صدام حسين. وفي تلك الفترة كان حزب "العدالة والتنمية" حديث العهد في الحكم، وكان أردوغان يعاني من صراعات داخلية مع المؤسسات الأخرى، خصوصاً المؤسسة العسكرية المرتبطة بشكل وثيق مع الجانب الأميركي.
وشكّل رفض البرلمان للمذكرة في مارس/ آذار 2003 ضربة موجعة للحليف الأميركي، وحرمه من استخدام القواعد التركية وموانئها وأراضيها لشنّ هجمات على العراق، ما أربك القيادة الأميركية وجعلها تعيد حساباتها قبيل شن الهجمات على العراق، وساهم في تأخر إسقاط نظام صدام حسين. هذا الأمر فتح المجال لأول الخلافات بين الطرفين، وما رافق ذلك لاحقاً من أزمة اعتقال أتراك في مدينة كركوك العراقية على يد القوات الأميركية، وتصاعد التهديد التركي بتحريرهم بالقوة إذا لم يُطلق سراحهم، وهو ما تم، بعد تبادل الحليفين رسائل حادة في تلك الأزمة.
ورغم ما حصل، فإن البلدين استمرا في علاقاتهما، وتمكنا من تجاوز الأزمة، مؤقتاً على ما يبدو، لتدخل تركيا إلى العراق بقوة عبر بوابة الشمال، وتعمل على تحويل الدعم الأميركي لحزب "العمال الكردستاني" وفصائل كردية في شمال العراق، إلى علاقات إيجابية مع مسعود البارزاني، في مسعى لاستيعاب "الخطر الكردي".
العلاقة التركية الإسرائيلية
أدى الموقف التركي من القضية الفلسطينية دوراً بارزاً في تحديد توجّه السياسة الخارجية الأميركية، المنحازة لإسرائيل، تجاه أنقرة التي اصطدمت أكثر من مرة مع الاحتلال. فقد اتخذ حزب "العدالة والتنمية" القضية الفلسطينية مبدأ أساسياً له في سياسته الخارجية، بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين. ومع الحصار على قطاع غزة، ما كان من أنقرة إلا الدفاع عن الفلسطينيين المحاصرين هناك ومحاولة تقديم الدعم لهم، واستناداً إلى ذلك، وقعت حادثة "ون منت" الشهيرة في منتدى دافوس الاقتصادي في بداية عام 2009، حين قاطع أردوغان جلسة حوارية كان فيها الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز، فهاجم الرئيس التركي، بيريز بشدة، واتهمه بقتل الأطفال. وحاول مدير الحوار إيقاف أردوغان وقاطع الجلسة بعبارته الشهيرة "ون منت"، ما أدخل العلاقات التركية الإسرائيلية في عنق الزجاجة، وبالتالي العلاقة مع واشنطن.
ولم يكتف وقتها داعمو إسرائيل بممارسة الضغط الاقتصادي على تركيا، ومحاولة التأثير على صرف سعر الليرة التركية، بل وصل الأمر في عام 2010 إلى استهداف قافلة "أسطول الحرية" المتجهة من تركيا إلى قطاع غزة لكسر الحصار المفروض، وما رافق ذلك من قتل وإصابة عشرات الناشطين الأتراك والأجانب، وحصول أزمة دبلوماسية بين البلدين وتهديدات متبادلة أسفرت عن قطع العلاقات بين الطرفين. وكالعادة وقفت أميركا إلى جانب إسرائيل.
وعلى الرغم من محاولة حزب "العدالة والتنمية" تجاوز الأزمة بمبادرة إسرائيلية، إلا أن العلاقات لم ترجع لسابق عهدها، وتعرضت لانتكاسات مع كل عملية عسكرية كانت إسرائيل تشنّها على قطاع غزة، فضلاً عن تراجع العلاقة أخيراً مع قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة وإعلان واشنطن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
"صفقة القرن"
جاءت "صفقة القرن" التي تروّج لها أميركا بدعم دول عربية، منها الإمارات والسعودية ومصر، لتعزز الخلاف بين أنقرة وواشنطن، خصوصاً أن الصفقة التي جرى تسريب بعض تفاصيلها تتضمن تجاهل حقوق الفلسطينيين، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ما استدعى رد فعل تركياً مضاداً تجلّى بعقد قمتين طارئتين للدول الإسلامية، واتخاذ قرارات حولها.
ولعل الموقف من هذه الصفقة، والترويج لها من قِبل محور الإمارات والسعودية ومصر، وهي على خلاف مع تركيا جراء دعمها ثورات الربيع العربي، ومعارضتها الانقلابات المضادة في مصر وليبيا على وجه الخصوص، جعلت من مصالح هذه الدول العربية تتلاقى مع المصالح الأميركية، فعملت على تخريب العلاقات أكثر بين واشنطن وأنقرة. هذا المحور تتلاقى مصالحه كذلك مع المحافظين الجدد في أميركا، الذين يرون حماية أمن إسرائيل استراتيجية أميركية.
دعم الأكراد في سورية
شكّل الصراع بين الجيش التركي وحزب "العمال الكردستاني" حرب استنزاف كبيرة لأنقرة، ورغم مساهمة أميركا في القبض على عبدالله أوجلان في عام 1999، وتبرئة نفسها من دعم الحزب، إلا أن هذا الملف بقي من أكبر القضايا الخلافية بين البلدين. وبينما كانت صفحة الصراع هذه تقترب من نهايتها، تارة عبر مسيرة السلام التي قادها حزب "العدالة والتنمية" بقيادة أردوغان، وتارة بالعمليات العسكرية، أدت التطورات في سورية إلى عودة هذه الخلافات، خصوصاً مع الدعم الأميركي لـ"وحدات حماية الشعب" الكردية، بحجة مكافحة تنظيم "داعش". وأغدقت أميركا الدعم على هذه القوات، فيما استغل "العمال الكردستاني" الوضع الميداني في سورية وبنى قواعد له، وانطلق منها لتنفيذ عمليات في تركيا، في حين ظهرت مخططات لتشكيل كيان كردي شمال سورية يمتد من حدود العراق وصولاً إلى البحر المتوسط. وفي خضم هذه التحولات، تدخّلت تركيا مرتين عبر "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، رغم الاعتراضات الأميركية.
كما أن الدعم الأميركي للأكراد لم ينحصر في المناطق الكردية بسورية، بل شمل مناطق العرب والتركمان. وبحجة قتال "داعش" مسحت أميركا بالقصف الجوي مدناً سورية بالكامل، وفتحت المجال لـ"وحدات الحماية" الكردية بالسيطرة عليها. يضاف إلى ذلك المماطلة الأميركية في معركة منبج شمال سورية، وعدم الوفاء بالتعهدات بالانسحاب من المنطقة إلى شرق الفرات. هذه العوامل ساهمت في تراجع العلاقات الأميركية-التركية، وظهرت حرب باردة بين الطرفين، على الساحة السورية وكذلك العراقية، حيث دمرت مناطق عراقية ذات أغلبية سنّية بذريعة الحرب ضد "داعش" أيضاً.
المحاولة الانقلابية الفاشلة
تُشكّل المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تتهم تركيا جماعة "الخدمة" بقيادة الداعية فتح الله غولن، بالوقوف وراءها، الدافع الذي نقل المواجهة التركية الأميركية إلى العلن. فالجماعة التي يقيم زعيمها في ولاية بنسلفانيا الأميركية، حاولت من خلال تغلغلها في أجهزة الدولة، الانقلاب عبر سلك القضاء والأمن بداية، عبر اتهامات لمسؤولين بالفساد، وتأليب الشارع التركي مرات، منذ عام 2013، بحسب اتهامات السلطات لها. وجاءت محاولة الانقلاب منتصف عام 2016، التي أدت إلى مقتل 251 شخصاً بين مدني وعسكري، لتعزّز الصراع بين الجماعة وأنقرة.
وخلال المحاولة الانقلابية، وصفت السفارة الأميركية المحاولة بداية بأنها ربيع تركي. ومع الموقف الأميركي الضبابي، عمدت السلطات التركية إلى قطع التيار الكهربائي عن قاعدة أنجرليك الاستراتيجية ليلة الانقلاب، التي هي من أهم القواعد الأميركية في المنطقة، ما اعتُبر من الأمور التي ساهمت في فشل الانقلاب. ولاحقاً صدرت تصريحات أميركية تعتبر أن الضباط الأتراك الذين جرى عزلهم من قبل أردوغان أصدقاء لأميركا.
ولم تدن واشنطن بشكل واضح المحاولة الانقلابية، ورفضت تسليم غولن رغم المطالب التركية المتكررة وتقديم أنقرة ما قالت إنها وثائق تثبت مسؤوليته عن المحاولة الانقلابية. ورغم أن اعتقال القس الأميركي أندرو برانسون الذي تتهمه تركيا بأن لديه علاقات مع "الخدمة"، قد تم قبل عامين، لكن بدا أن الولايات المتحدة وجدت في ذلك ذريعة لإعلان الحرب المباشرة على تركيا، وهو ما تجلى بفرض عقوبات على وزيري الداخلية سليمان صويلو، والعدل عبد الحميد غل. ورغم عدم تأثير العقوبات مادياً، لكن الأزمة انعكست على الاقتصاد التركي فهوت الليرة التركية.
العقوبات على إيران
شكّل رفض أنقرة الانصياع للعقوبات المشددة التي فرضتها واشنطن على طهران سبباً إضافياً لتصاعد الخلاف بين البلدين. ومن المعروف أن نحو نصف ما تستورده تركيا من الغاز الطبيعي يأتي من إيران، وبالتالي فإن أي عقوبات على الأخيرة وعلى الدول التي تتعامل معها، ستتسبّب بأزمة في تركيا، خصوصاً في الشتاء، مع اعتماد تركيا على الغاز الطبيعي للتدفئة، وبالتالي فإن العقوبات الأميركية على طهران كانت سبباً إضافياً لتوتر متصاعد بين أنقرة وواشنطن.
صيف ساخن
يُعتبر أكبر نجاح لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا هو في الجانب الاقتصادي، ففي عام 2013 أنهت تركيا ديونها لصندوق النقد الدولي، وفكّت ارتباطها بدول الفوائد التي كانت تحدد سياساتها على مدار عقود، فدفعت أنقرة نحو 28 مليار دولار ديوناً للصندوق على مدار 10 سنوات تولى فيها "العدالة والتنمية" الحكم. وشهد العام نفسه الكشف عن مشاريع كبرى وتوقيع اتفاقيات مهمة مع دول خارجية، ما حقق أرباحاً كبيرة للبلاد، ودفع وكالات التصنيف الدولية لرفع التصنيف الاقتصادي لتركيا.
ولكن بعد نجاح أردوغان في إفشال المحاولة الانقلابية عام 2016، ثم فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، ونجاحه في الانتقال بالبلاد إلى النظام الرئاسي في يونيو/ حزيران الماضي، وفي الوقت الذي كانت فيه الأمور تجري بهدوء مع الولايات المتحدة وتوقيع خارطة الطريق حول مدينة منبج في يونيو/ حزيران، فاجأت الولايات المتحدة الجميع بتصعيد مع تركيا، واجهه أردوغان بالتصرف من الند للند.
وتحوّل الملف الاقتصادي الذي كان يشكّل نجاحاً لحزب "العدالة والتنمية" ولأردوغان، إلى مسرح للمواجهة مع أميركا، فانخفضت العملة التركية خلال فترة قصيرة من 4,5 مقابل الدولار إلى 6,4، مسجلة انخفاضاً قياسياً، بما يعني ذلك من انعكاس على الاقتصاد، ليبدو أن الصيف الحالي سيكون ساخناً على تركيا، والاقتصاد سيكون مسرحاً أساسياً للصراع الذي اتخذ شكل المواجهة المباشرة.
وكانت حكومات تركية عدة على مدار عقود تسقط تحت تأثير الوضع الاقتصادي وتراجع قيمة الليرة وتأثير الفوائد والديون الخارجية، ولكن أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" عملا منذ عام 2013 على فك ارتباط البلاد بهذه القيود الاقتصادية. واليوم تبدو ثقة الرئيس التركي بالاقتصاد كبيرة، مع إصراره على عدم الاستسلام. ويأتي مقاله في صحيفة "نيويورك تايمز" مؤشراً على ذلك، بتأكيده أنه يبحث في خيارات الخروج من الحلف مع أميركا، مهدداً باللجوء لخصوم الولايات المتحدة، وهم روسيا والصين وإيران والهند والمكسيك. أمام هذا الواقع، من المنتظر أن يستمر الصيف الساخن وضغط واشنطن لحين تحقيق مطالبها، التي يبدو أنها تتجاوز قضية القس الأميركي المعتقل.