منذ وصول رجب طيب أردوغان إلى الحكم في تركيا، بدأ تدريجياً هذا التباعد بين واشنطن وأنقرة. بعد ستة أيام من تسلّمه منصب رئاسة الوزراء، كان غزو العراق في 20 مارس/آذار 2003. حينها رفضت أنقرة السماح للقوات الأميركية بالمرور عبر الأراضي التركية للعبور إلى شمال العراق كجبهة ثانية ضد نظام صدام حسين أو استخدام قواعد عسكرية تركية لغايات الغزو الأميركي. بعدها كانت مواقف أردوغان من إسرائيل التي أربكت العلاقات الأميركية-التركية، وكان اكتشاف الغاز في حوض البحر الأبيض المتوسط الذي جعل واشنطن تنحاز لصالح تحالف الطاقة بين إسرائيل وقبرص ومصر واليونان. كما أعادت أحداث الربيع العربي رسم حدود المصالح بين واشنطن وأنقرة، لا سيما في سورية، حيث افترق الطرفان حول أولوية إسقاط رئيس النظام بشار الأسد ودعم القوات الكردية في شمال سورية، قبل أن تعيد تركيا حساباتها نهاية عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وتدخل مسار أستانة مع روسيا وإيران.
أزمة مختلفة عن سابقاتها
بعد محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016، أقال أردوغان قيادات عسكرية كانت مفتاح التواصل والتنسيق مع الجيش الأميركي، لكن هذه العلاقات العسكرية حافظت على متانتها على الرغم من كل الأزمات في العقدين الأخيرين. لكن أزمة "أس 400" تمس لأول مرة هذا التنسيق العسكري وتهدد ليس فقط تسليم واشنطن طائرات "أف 35" لأنقرة، بل احتمال استهداف واشنطن لدور شركات التصنيع الدفاعي التركي، وبالتالي بداية تفكيك هذا التشابك العسكري بين الطرفين.
في الظاهر، تشكو تركيا أنه وعلى الرغم من دورها في حلف شمال الأطلسي، لم يُسمح لها حتى الآن باستلام أنظمة صواريخ دفاعية من الغرب. فيما يقول الطرف الأميركي إن المسألة تقنية وهناك خشية من تسرّب نقاط ضعف "أف 35" إلى منظومة "أس 400" الروسية. لكن صلب هذه الأزمة فعلياً هي الخطوط الحمر الأميركية على محاولات موسكو توسيع نفوذها الإقليمي واختراق أسواق الأسلحة في الشرق الأوسط.
رد الفعل الأميركي على تسلّم أنقرة رسمياً منظومة "أس 400" المتوقع الأسبوع المقبل، لا يزال ضبابياً، في ظل كلام ترامب الذي يتناقض مع كلام فريقه للأمن القومي، لا سيما خلال قمة مجموعة العشرين، حين وجّه اللوم لإدارة أوباما لعدم إعطاء تركيا منظومة صواريخ "باتريوت". في المقابل، فإن الإدارة الأميركية ألمحت إلى أنها ستعاقب أنقرة عبر قانون "مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات" (كاستا) الذي يحظّر التعامل العسكري مع روسيا، لكن ليس واضحاً ما إذا كانت العقوبات ستُفرض بشكل تلقائي عند استلام أنقرة "أس 400" أو عند نشرها. الاحتمال الثاني يعطي الطرفين الأميركي والتركي بضعة أشهر إضافية لشراء الوقت والتعامل مع التداعيات. ومن الأفكار المتداولة نشر منظومة الصواريخ في قطر أو أذربيجان لتفادي التوتر بين واشنطن وأنقرة في ظل محاولات تطمين تركية أن هذه المنظومة لا تشكّل تهديداً لأمن الحلف الأطلسي. وهناك أيضاً خيار تسلّم "اس 400" وعدم نشرها في وقت قريب. ومن المستبعد التراجع عن الإجراءات الأميركية التي تتعلق بطائرات "أف 35"، لكن التساؤلات ما إذا ستقتصر على هذا الأمر فقط أو تكون هناك تداعيات أوسع على التعاون العسكري أو حتى الاقتصادي. لا بد من الإشارة إلى أن الهند أيضاً تتحدى العقوبات الأميركية وتسعى للحصول على منظومة "أس 400" الروسية بمبلغ 5.4 مليارات دولار، وقد طالبت نيودلهي إدارة ترامب بإعفاءات من قانون "كاستا"، فيما واشنطن في موقف صعب لأنها تريد التوصل إلى اتفاق للتجارة الحرة مع الهند، وبالتالي موقف إدارة ترامب حيال نيودلهي أكثر ليونة من موقفها حيال أنقرة.
أما أردوغان، فقد تعرّض لعقوبات أميركية بعد تمسكه بتوقيف القس أندرو برونسون، ولعقوبات روسية بعد إسقاط طائرة سوخوي روسية فوق سورية عام 2015. وبالتالي لا يريد الرئيس التركي فقط تفادي تكرار العقوبات من أي منهما، بل يسعى لمواصلة اللعب على الحبلين الأميركي والروسي في تكتيك يعطيه هامش المناورة. لكن الرقص التركي على حافة الهاوية قد يخرج عن السيطرة. السيناريو الأسوأ بالنسبة للحكومة التركية هو أن يُفرض عليها الاختيار بين عقوبات أميركية تهز اقتصادها نتيجة استلام منظومة "أس 400"، أو عقاب روسي عبر هجوم بري على إدلب في حال تراجعت عن صفقة منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية. ما قد يساعد أردوغان هو إعادة التواصل الأميركي-الروسي خلال الفترة الأخيرة، لا سيما خلال قمة مجموعة العشرين في اليابان.
الكرة في الملعب السوري
مهما كانت ردة الفعل الأميركية، فإن الارتدادات الأولى ستكون في سورية. إذا قرر ترامب عدم قلب الطاولة كما هو متوقع، فهذا سيدفع إلى الحفاظ على الأمر الواقع الهش في إدلب وشرق الفرات. أخيراً، أدى تسرّع المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، في إعلان التوصل إلى اتفاق مبدئي مع تركيا حول منطقة عازلة على الحدود السورية، إلى نتائج عكسية، لأنه تجاهل التحديات الأوسع في العلاقات الأميركية-التركية. المحاولات الأميركية التي بدأت في الربيع الماضي لفك الارتباط بين أنقرة وموسكو وصلت إلى طريق مسدود، وبالتالي انتهت معها طموحات التوصل إلى اتفاق بين واشنطن وأنقرة لتسهيل الانسحاب الأميركي من شمال سورية، والذي لن يحصل في المدى المنظور.
الاتفاق المبدئي الذي تحدث عنه جيفري كان يقضي بسحب "وحدات حماية الشعب" الكردية وكل الأسلحة الثقيلة بعيداً عن الحدود التركية وإزالة كل المنشآت العسكرية الكردية قرب الحدود السورية التركية، لكن العوائق تبقى حول عمق هذه المنطقة العازلة وما هو دور تركيا فيها، لا سيما أن حكومة أردوغان أكدت أكثر من مرة أنها لن تقبل سوى بسيطرة تركية على هذه المنطقة. وفي ظل غياب أي وساطة أميركية أو توافق بين الأتراك والأكراد، فهذا يعني أن على القوات الأميركية البقاء لضمان عدم حصول مواجهة بين الطرفين. تسلّم ديفيد ساترفيلد قريباً منصب السفير الأميركي في أنقرة، سيؤدي إلى تحسين التواصل بين الطرفين، لا سيما أن التواصل أخيراً كان عبر جيفري مع التركيز على الملف السوري فقط الذي لا يمكن فصله عن مجمل تحديات العلاقات الثنائية الأميركية-التركية. وقد يسعى البيت الأبيض لنزع فتيل أي مواجهة دبلوماسية مع تركيا لتسهيل بداية مهمة ساترفيلد في الأيام المقبلة.
ولكن حتى لو مرت أزمة "أس 400" بأقل ضرر ممكن على علاقة البلدين، يبقى الواقع أن لدى واشنطن وأنقرة مصالح إقليمية متناقضة، لكن لا يمكنهما تحمّل التداعيات الاستراتيجية لكسر هذا التحالف بشكل كامل. أردوغان يحاول ترميم وضعه السياسي بعد خسارة الانتخابات البلدية في إسطنبول، ولا يحتاج إلى تأزم مع واشنطن يُربك الوضع الاقتصادي التركي، وإدارة ترامب أيضاً ستصبح أكثر عزلة في سورية إذا وصلت علاقتها مع تركيا إلى مرحلة المواجهة الدبلوماسية، وبالتالي قد تضطر إلى تأخير انسحابها من الشمال السوري إلى أجل غير مسمى. لكل من واشنطن وأنقرة ما تخسره في حال انكسر تحالفهما بشكل نهائي، لكن إدارة هذه العلاقة الثنائية تصبح أكثر صعوبة بشكل متزايد.