العقوبات تُغرق "الأسطول" الإعلامي الإيراني

11 يوليو 2020
"برس تي في" تخاطب المتحدثين بالإنكليزية (بهروز مرعي/فرانس برس)
+ الخط -

تشير المؤشرات وتصريحات رسمية من مسؤولين إيرانيين إلى أن الآلة الدعائية الإيرانية الثقيلة، المتمثلة بقنواتها الفضائية التي تخاطب غير الإيرانيين عموماً، أوشكت على الانتهاء. التضييق الأميركي وصعوبة توفير العملة الأجنبية، أو "العقوبات" بلغة الأميركيين، وصلت إلى الذراع الإعلامية. الخبر ليس صادماً، فالاقتصاد الإيراني مرهق.

لكن هذا ليس كل شيء بالضرورة، فالذراع نفسها شبه معطلة. ثمة أسئلة كثيرة في الاتجاهين عن وظائفها التي تؤديها، بالنسبة للممولين وبالنسبة للمتلقين. وقد تكون مفارقة أولى عند الحديث عن الموضوع أن العقوبات استطاعت اختراق أجهزة الإعلام الإيرانية حتى بالمعنى الثقافي، من دون عناء كبير. فهذه المؤسسات التي يغرق محللوها بتفسير "الحرب الناعمة، كما يتخيّلها العقل الديني الذي يختزل كل العناصر الإبستيمولوجية الأخرى، تستخدم مصطلح "العقوبات" تماماً كما تمليه الدعاية الأميركية، ومن دون أي تعديل قادر على اكتساب المعنى. ليس هذا دليلاً على تفوق الأميركيين في الدعاية، وهذا ليس ميدان بحث منطقي، وليس خبراً جديداً. هذه مجرد مفارقة أولى، وربما نقطة من نقاط الاستدلال لوظائف المحطات وأدوارها في الفلك الإيراني.

 يحتاج تحديد أثر الفضائيات الإيرانية ومواضع هذا التأثير إلى دراسات متخصصة تركن إلى منهجيات واضحة. لكن في ظل كثرة الحديث عن إمكانية الاستغناء عنها حالياً، ما يمكن الحديث عنه، إلى جانب الفرضيات، هو الجمهور المستهدف: هل ستترك هذه المحطات فراغاً؟ في الشكل، كانت الآلة الإعلامية الإيرانية آلة ثقيلة، بأكثر من معنى، خاصة الكلفة بالقياس إلى الإمكانات الفعلية. بالدرجة الأولى، منحت هذه المحطات صوتاً للآذان التي كانت تبحث عنه. وقد يكون هذا مدخلاً للإجابة عن سؤال الجمهور المستهدف. وعلى مدى زمني ليس قصيراً، فإن مفهوم هذا الأسطول للدعاية كان موجهاً إلى الداخل، وليس إلى الخارج. قد يكون تخويفياً في بعض الأحيان، وبطبيعة الحال يتجاوز المعايير المهنية إلى الأيديولوجيا غالباً، لكن تلك فرضيات تحتاج إلى دراسات متخصصة.

ما يمكن افتراضه فعلاً، وبناء على تحليل نسب المشاهدة الأولية، فإن القنوات الفضائية الخارجية التي تبعت إيران مباشرةً كانت أصوات تحدث في غرفة مغلقة أكثر من كونها منصة تتوجه إلى آخرين. بالدرجة الثانية، كانت محطة لتأمين وظائف وفرص عمل، في زمن كان الإنفاق فيه ممكناً. اليوم، وقد صار إغلاق هذا الأسطول مسألة مطروحة، يمكن إعادة طرح بعض الأسئلة عن وظائفه السابقة، وعن احتمالات الفراغ ومواضعه. وقد لا يكون التأثير كما يتخيّله الباحثون عنه، كما أن أحداً قد لا ينتبه إلى حدوث فراغ.

 بشيء من التعميم، يمكن الافتراض بأن الأسطول الدعائي الإيراني الذي يواجه الغرق كان يتوزع على ثلاثة مشارب رئيسية: قناة "العالم" لمخاطبة العرب أو المتحدثين بالعربية تحديداً، و"برس تي في" التي تخاطب المتحدثين بالإنكليزية من دون أن تؤدي أي وظيفة "ما بعد كولونيالية" أو تملك قدرة على فهم أعمق للقضايا التي تدافع عنها، بينما تخاطب مجموعة "الكوثر" جمهوراً على أساس المذهب. وإن كانت المحطتان الأساسيتان، أي "العالم" و"برس تي في"، قد حملتا خطاباً مذهبياً سياسياً، إلا أن القنوات الأخرى تبنت خطابات ما بعد تبشيرية، ولعبت بعد احتلال العراق دوراً تأسيسياً في تنظيم الحالة المذهبية الصاعدة، إن كان ذلك تبشيراً، أو دفاعاً عن سيل المحطات المنافسة، والناشطة في سياق حرب المذاهب.

بإغلاق المجموعة السياسية، المتمثلة بـ"العالم" و"برس تي في"، وقبلها المجموعات المذهبية المتمثلة بـ"الكوثر" وما حولها، ستفقد الدعاية الإيرانية وسائل اتصال "مع نفسها". يمكن القول إن الإيرانيين، لوقت طويل، آمنوا بنظرية "الاعتماد على وسائل الإعلام" التقليدية، أي أن الاتكال على الإعلام، وبالتحديد على وسائل إعلامية تحاول اكتساب سمعة، هو بشكل من أشكاله، تأكيد للعلاقة بين ما يريده الفرد وبين ما تريده وسائل الإعلام.

ذلك أن هذا الإعلام يخاطب جمهوراً محدداً، وهدفه الإشباع وليس الاستقطاب. الشكل السياسي الذي أسبغت فيه هذه الأدوات ليس سوى لباس فضفاض لوظائف اجتماعية معقدة. لطالما كان الجمهور المتوجه إليه ليس جمهوراً محلياً، بل لبنانياً أو عراقياً، وكان خالياً من أي خصوصية "وطنية"، بل كان يلتقي في ما يشبه الرؤية "المهدوية". لكن بمعزل عن المسعى "الإمبراطوري" في تأسيس أسطول دعائي، كانت البداية متعثرة. على مدى سنوات، لم يكن هناك تفاوت في المحتوى المذهبي، بل في تقديم المحتوى المذهبي. هل يشاهد الأميركيون "برس تي في" فعلاً؟ أو يشاهد العرب قناة "العالم"؟ نحتاج إلى إحصاءات.

لكن، يمكننا التأكد من أن جمهوراً معيناً كان، لعدة اعتبارات تتفاوت بين الطبقي والعلاقة بين القوة ومصادر المعرفة، يشاهد القنوات التي تقدّم مضموناً مذهبياً خالصاً. في الشكل، كانت هذه المؤسسات تقترح نوعاً من "التكامل" بينها وبين جمهورها، بالمعنى الذي يقترحه كريستوفر وستغايت عن التكامل، في كتابه "الحياة اليومية لنظرية الاعتماد على وسائل الإعلام"، إذ يعتبر أن هذا التكامل هو عبارة عن علاقة محددة، لكن تتبعها لا يخلو من الصعوبة من بين مجموعة عناصر: وسائل الإعلام والتواصل نفسها، والجماهير المتلقية، وعلاقة الطرفين الواسعة مع المجتمع.

ولوقت غير قصير، لم يكن الإعلام الذي يدور في فلك الجمهورية الإسلامية في إيران، بصيغها الناشئة والمتعددة، إعلاماً يهدف إلى "صناعة رأي عام" انطلاقاً من الصفر، بقدر ما كان إعلاماً يعرف الأفراد الذين يتوجه إليهم ويفهم نزعاتهم. هناك "تفاهم" غير معلن بين المشاهدين والمحطات، ولا تقوم العلاقة على الاستكشاف، بل على التفاهم، وتالياً على الإدراك. من بين ملاحظات عدة، يمكن الحديث عن خمس ملاحظات رئيسية تدور حول الأسطول الغارق. الأولى، عدم مواكبة التطورات في نظام المعلومات. المدافعون عن هذا التردي، يعزونه إلى الضغوط الاقتصادية، ويتجاهلون هيمنة الأيديولوجيا، لكن التوتر المتفاوت بين القنوات التي تدور في الفلك نفسه، ليس سببه "الإنفاق العشوائي" المجرّد، بل الفشل في فهم وسائل الاتصال من الأساس. الملاحظة الثانية، غياب المحتوى الثقافي عن هذه المحطات، بالمعنى الصحافي للاستخدام الثقافي وليس الأنثروبولوجي، والتركيز على الجوانب الدينية والسياسية. الملاحظة الثالثة، المستوى المهني. وهي ملاحظة، وليست تقييماً، أو محاولة تقييم، لكن يتضح لمتابع هذه القنوات أن العاملين فيها لم يخضعوا لتدريب مهني دائماً. وهذه ملاحظة قد تكون شائعة وفضفاضة بأي حال. الملاحظة الرابعة لمتابع هذه المحطات هي "الرقابة الذاتية". فالصحافيون العاملون في هذه المحطات يبالغون على صفحاتهم أحياناً في المزايدة بالولاء للقمع في سورية أو في العراق، أو في الهجوم على التظاهرات في لبنان، أو يتجنبون الحديث عن أي قضايا حقوقية أو شعبية فوق سقف "المؤامرة".

الملاحظة الخامسة، الانغلاق التام. فكما كان الإعلام الإيراني مهووساً بالشاه ونشاطاته، وكما تدرج العادة في الإعلام الرسمي العربي المسيطر عليه من الاستبداد، يحضر الضيوف ويذهبون على قاعدة الولاء، أو اجترار الولاء على الهواء. وفي زمن مواقع التواصل الاجتماعي، لا تعود الحاجة إلى هذه المنابر ذات أهمية تذكر، حتى لأصحابها، إلا لدفع دورة اقتصادية معطلة قليلاً إلى الأمام، عبر تأمين بعض الوظائف للمحسوبين والمحسوبات. لكن المفارقة الأخرى هي أن الاقتصاد هو الذي سيتسبب بإغلاق هذه المحطات هذه المرة.

المساهمون