لم يجد الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، أفضل من فترة أعياد الميلاد المجيدة ليُصدر عفوَه عن السجينة جاكلين سوفاج (69 سنة)، التي حكم عليها القضاء في فرنسا بالسجن عشر سنوات، رغم أنه أخذ بعين الاعتبار مبدأ "حق الدفاع عن النفس" في قتلها زوجها بواسطة ثلاث طلقات من بندقية، والذي أذاقها، طيلة أكثر من أربعة عقود، أصنافًا من العذاب والاضطهاد.
القرار اتخذه الرئيس بعد أن استنفدت السجينة ومحاموها كل الإجراءات القضائية (الحكم الأول ثم الاستئناف)، وبعد أن كان الرئيس الفرنسي، نفسه، قد أصدر في حقها، عفوًا جزئيًّا، قبل سنة تقريبًا.
ومعلوم أن الحركات النسائية في فرنسا اتخذت من السجينة، التي آزرتها بناتها الثلاث، رمزًا لضحايا العنف الزوجي، خاصة الجنسي، الذي يحصد كثيرًا من الأرواح في فرنسا سنويًّا (سنة 2014 قُتلت 118 امرأة وفي سنة 2015 قُتلت 122 امرأة)، فلجأت هذه المنظمات ولجنة الدفاع عن السجينة، التي نجد فيها عمدة باريس آن هيدالغو، والزعيم السياسي دانييل كوهن بنديت، وآخرين، إلى سلاح التوقيعات، وحصدت 430 ألف توقيع، تطالب رئيس الجمهورية بإصدار عفو رئاسي عنها.
ذلك ما استجاب له الرئيس الفرنسي، بشكل نسبي، حين أصدر عفواً جزئيًّا، وهو ما يسمح للسجينة بأن تطالب بـ"إفراج جزئي". ولكن محكمة تطبيق العقوبات رفضت الطلب، بدعوى أن "السجينة لم تسائل نفسَها، بما يكفي، حول ما اقترفته". وهنا، كان الأمل الوحيد المتبقي لأشهر سجينة في فرنسا هو العفو الرئاسي.
فرصة هولاند لاستعادة بعض شعبيته:
ليس من المبالغة القول إن أكثر القرارات الشعبية التي أقدم عليها الرئيس فرانسوا هولاند، هو الخطاب الذي أعلن فيه عدم ترشحه لولاية رئاسية ثانية. ومن حينها بدأت شعبيته بالتصاعد، ولو ببطء، نظرًا لانخفاض مستوى البطالة في فرنسا، للشهر الثالث على التوالي.
وليس من المبالغة أيضًا القول إن إصدار هذا العفو يصبّ في مصلحة الرئيس الفرنسي، الأقل شعبية في تاريخ الجمهورية الخامسة، وسيرفع من نقاط شعبيته، في الأشهر القليلة المتبقية لانتهاء ولايته.
ومما يعزز هذا التقدير، ليس فقط التضامن الشعبي الواسع مع جاكلين سوفاج، ومع كل ضحايا العنف الزوجي، وإنما دعم الطبقة السياسية الفرنسية لهذا القرار، خصوصًا أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية على الأبواب، وأصوات النساء أكثر من ضرورية. وليس غريبًا أن يجد المرء سياسيين من حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف وحزب "الجمهوريون"، يؤيدون القرار الرئاسي، ولو أنهم انتقدوا تأخّر صدوره.
كما أن اليسار، بكل أطيافه، عبّر عن تقديره لقرار العفو، من ميلونشون إلى فالس إلى مونتبورغ مرورًا ببُنوا هامون، الذي نشر في صحيفة "ليبراسيون"، قبل أيام، مقالًا يلتمس فيه من الرئيس الفرنسي العفوَ عن السجينة جاكلين سوفاج.
الكل رحَّب إلا الجسم القضائي
في كتاب المحاورات مع الرئيس هولاند "لا يجب على الرئيس أن يقول هذا"، والذي أطلق فيه هولاند سهامه وسخرياته على الجميع، لم يكن الجسم القضائي الفرنسي محلّ استثناء، فوصفه بـ"المؤسسة الجبانة"، وهو ما دفع حينها مسؤولين من أعلى مؤسسات القضاء في فرنسا إلى طلب لقاء الرئيس، في وقت متأخر من الليل، وبشكل استعجالي، لطلب توضيحات، بخصوص ما اعتبروه "إهانة".
ولا يبدو أن العلاقات تحسّنت بين الطرفين، على الرغم من حرص الرئيس، كما اعتاد أن يصرّح، على استقلالية القضاء الفرنسي. والدليل على استمرار الجفاء هو أن العديد من القضاة انتقدوا، صراحة، البادرة الرئاسية. فقد اعتبرت رئيسة الاتحاد النقابي للقضاة، فيرجيني دوفال، القرار "مثيرًا للاستغراب وسيئًا". ورأت أن كل الدلائل كانت ضد إطلاق سراح السجينة، ابتداءً من محكمتي جنايات وهيئة محلّفين يعرفون القضية جيدًا، قرروا إصدار الحكم، ثم جاء بعدهم قضاة مهنيون مدعومون بآراء خبراء ومحللين نفسيين، قرروا ألا يمنحوها إطلاق سراح مشروطًا".
فيما اعتبر المحامي العام، فيليب بيلجر، أن إصدار "عفو كليّ خطيرٌ جدًّا على الديمقراطية". وأضاف أن رئيس الجمهورية "فضّل احترام عدالة خاصة، عبر الخضوع لتأثيرات (الشارع)، على العدالة الرسمية التي تشتغل بشكل لافت". ولمَّح فيليب بيلجر إلى ضغوط سياسية وإعلامية تعرّض لها الرئيس.
أما محامية ورئيسة المختبر الدولي حول السجون، ديلفين بويزل، فتساءلت: "هل يمكن أن نفسّر بأن مثل هذا الحماس الإعلامي يمكن أن يتيح للسجناء الخروج من السجن؟".
واعتبر رجال قضاء آخرون أن رئيس الجمهورية "خضع للديماغوجية، بسماحه بإطلاق سراح سيدة، حكم عليها سنة 2014 بالسجن 10 سنوات، لقتلها زوجها، في 10 أيلول/سبتمبر 2012".