العرب ومؤخّرة الصفقة

21 فبراير 2020
+ الخط -
من المفيد التذكير أن خطة ترامب - نتنياهو، المسماة من واضعيها "وثيقة السلام من أجل الازدهار- رؤية لتحسين حياة الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني"، لم تُصمم من أجل الرفض أو القبول، ولم تٌهَندس أصلاً من أجل توقيع الأطراف المعنية عليها في حفل استعراضي تنقله قنوات التلفزيون على الهواء مباشرة، كما جرت العادة في مناسبات سابقة، بل هي برنامج عمل للتنفيذ المباشر على الأرض. يتمثل الإبداع غير المسبوق في رؤية ترامب التي أشرف على إخراجها النسيب، جيرالد كوشنر، أنها خطة تسير بالعكس، تسبق عربتها الحصان، ويقع تطبيق أهم بنودها، الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، قبل نشر نص الخطة. 
الأمر الآخر في هذه الخطة أن الأدوار والحصص موزّعة فيها بعناية فائقة، تتوافق مع موقع كل طرف ووزنه في المعادلة، بمعنى أن الطرف الإسرائيلي، وهو الأقوى في المعادلة، يحظى بصدر الرؤية، بينما تُرك ذيل النص، أو مؤخرته، للطرفين العربي والفلسطيني. يُفرد صدرُ الوثيقة لكل ما يُعزّز نفوذ الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك "القدس عاصمة غير مقسّمة لإسرائيل"، والاحتفاظ "بالمسؤولية الشاملة عن الأمن للدولة الفلسطينية"، بما في ذلك المعابر الحدودية و"المجال الجوي والطيف الكهرومغناطيسي". أضف إلى ذلك عدم السماح للدولة الفلسطينية بتشكيل جيش أو إبرام اتفاقات أمنية أو مخابراتية مع أية دولة أو منظمة يمكن أن تؤثر بالسلب على أمن إسرائيل، مع احتفاظ إسرائيل بالحق في "الدخول" إلى دولة فلسطين، للتأكد من بقائها "منزوعة السلاح ولا تمثل تهديدا". وتقضي خطّة ترامب بوضع غور الأردن الذي يمثل نحو 30% من الضفة الغربية المحتلة تحت السيطرة الإسرائيلية، وبذلك يصبح الغور الذي يفصل الضفة الغربية عن الأردن جزءاً من حدود إسرائيل الشرقية. كما سيكون لإسرائيل حرية ضم مستوطناتها في الضفة الغربية، ولن تضطر لإزالة أي منها.
وبالفعل، لا بالقول، شرعت إسرائيل منذ ما قبل الإعلان عن الصفقة يوم (29 يناير/ كانون الثاني) بتطبيق البنود كما وردت على الخرائط المرفقة بالرؤية، وباشرت الجرّافات مرة بهدم مزيد من البيوت الفلسطينية في القدس وضواحيها، ومرّة بتشييد الأبنية الاستيطانية على مزيد من الأراضي المصادرة في الضفة الغربية.
أما الجانبان الفلسطيني والعربي، فقد اختارا الإمساك بمؤخرة صفقة ترامب، والبدء بتطبيقها من القسم الثامن عشر، المعنون "تربية وثقافة السلام"، والذي ورد فيه حرفياً "سيكون الترويج لثقافة السلام عنصراً هاماً في اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية بهدف تهيئة بيئة تضم قيم التعايش والاحترام المتبادل في جميع أنحاء المنطقة". ونصت الوثيقة على "إنشاء لجنة مشتركة للقبول والتسامح للتركيز على الخطوات التي يمكن اتخاذها لمساعدة الناس من كلا البلدين على لأم الجروح الناجمة عن هذا الصراع وتقريب الناس من خلال الحوار". وهذا ما يفسّر، أن أول تحرك فلسطيني في الميدان، لـ"مواجهة الصفقة" كان مشاركة وفد فلسطيني، في اجتماع برلمان السلام الإسرائيلي في تل أبيب، تحت مظلة لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي في منظمة التحرير، تزامن مع زيارة وفد إسرائيلي إلى رام الله لتناول غداء فلسطيني مع مستشار الرئيس للشؤون الدينية، محمود الهباش.
طبعا يجري كل هذا "التعايش" مع موجات متتابعة من "ثقافة السلام" تهب على عواصم عربية عدة، فهذه الرياض تستقبل 55 من رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية، وتبحث معهم "سبل جسر الهُوة مع إسرائيل". وذاك رئيس المجلس السيادي السوداني، عبد الفتاح البرهان يلتقي خلسة مع بنيامين نتنياهو، ويفتح سماء بلاده لطائرات العال الإسرائيلية. وبين هذا وذاك، يٌكثف ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، جهوده الحثيثة لفتح أو خلع أبواب عواصم عربية أخرى، أمام إسرائيل، ذلك أن الشراكة مع تل أبيب باتت مصلحة عربية مُلحة، كما يُروّج إعلام عربي فاقعة زرقته.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.