العرب وإضاءة المستقبل

03 سبتمبر 2014

عمل لـ"إمبيرتو بوكيوني"

+ الخط -

الإنسان كائن متعدّد الأبعاد في مستوى الزّمان، فهو ينتمي إلى الماضي، ويفعل في الحاضر، ويستعدّ للمستقبل. ومعلوم أنّ ما حصل من أفعال، وما تشكّل من تراكمات ماضية هي مُنْجَز مادّي، أو معنوي، ساهم، على نحو ما، في بلورة كينونة الفرد والجماعة، ضمن سياقٍ حضاريّ وفضاء تاريخيّ مخصوص. والثّابت أنّ نقد الماضي ممكن، وإعادة استثماره في الحاضر أمر واقع، لكنّ تغيير الماضي، أو التحكّم فيه، وإعادة إنتاج التّاريخ حرفيّاً مطلب غير واقعيّ، لا بل غير منطقيّ من النّاحية الأنثروبولوجيّة. لذلك، يذهب دارسون إلى أنّ الإنسان ميّال إلى استحضار الماضي، من دون الارتهان له، وهو غير قادر على تبديل أحداث وقعت، أو كوارث حصلت في الزّمن السّالف. أمّا الفعل في الحاضر والتّخطيط للمستقبل في ضوء معطيات الرّاهن ومستجدّات العصر السّابق فأمر ممكن، بل مطمح مطلوب، تكدّ الشّعوب المتقدّمة في تحقيقه، فالسّعي إلى تأسيس عالمٍ أفضل، والتّوق إلى مدينة بشريّة تفاعليّة، وإلى حداثة مستنيرة، وإلى مجتمع شبكيّ إلكترونيّ متنافذ وعالم من دون أسلحة دمار شامل... ذلك كله كان من قبيل الأحلام السَنيّة التي جدّ الإنسان، على مرّ الزّمان، في تحويلها من دائرة الأمنية إلى حيّز الحقيقة.

والمشهود في بلاد العرب أنّ التّفكير في ابتكار المستقبل، والاستعداد له أمر أبعد ما يكون عن اهتمامات النّخبة المثقّفة والسّلطة الحاكمة، فما بالك ببقيّة المواطنين، فجلّ العرب المعاصرين مشغولون بجَلد الماضي، أو تمجيده، والعمل على استحضاره، أو استبعاده على نحو متعصّب، وأمّا البقيّة منهم فمهمومون بالحاضر، منهمكون في الرّاهن بحّاثون عن لقمة العيش وضمان الكفاف اليوميّ، وهم يعانون أعباء الحياة المعيشة، وكثيرون منهم لا يجدون فكاكا من المشكلات الآنيّة، حتّى يفكّروا في امتلاك المستقبل، وتوجيهه على كيفٍ مّا.

ويكفي أن نلقي نظرةً على مؤلّفات العرب، فيما يتعلّق بعلم المستقبليّات، لنفاجأ بمحدوديّة الأثر النّظري العربي في هذا الحقل المعرفي، فعدا ما كتبه المهدي المنجرة وأحمد أبو زيد في هذا المضمار، نكاد لا نجد دراسات جادّة في هذا الخصوص. كما أنّ تدريس علم المستقبل يكاد يكون معدوماً في الجامعات العربيّة، ومراكز البحث المعنيّة بهذا المجال معدودة، ومحدودة الفاعليّة. وهو ما يجعل العقل العربيّ عقلاً تكراريّاً ماضويّاً، بل عقلاً معيشيّاً يومياتيّاً، أبعد ما يكون عن العقل الاستشرافي الذي يتميّز بطاقته الاستباقيّة، وقدرته على استيعاب الماضي، وتمثّل الحاضر وتوقّع الممكن والمُحال في قادم السّنين. فاستشراف المستقبل يمكّن الأمم من أسباب مواجهة التحدّيات القادمة، وحلّ المشكلات الرّاهنة، وتجاوز الموجود تحقيقاً للمنشود، فمن المهمّ، في منعطف الألفيّة الثالثة، التّفكير في حلول جذريّة لمشكلاتٍ من قبيل البطالة والفقر، ومناطق الظلّ وترييف المدن في العالم العربيّ، ومن المهمّ بمكان الاستعداد لمواجهة تحدّيات مستقبليّةٍ، من قبيل نضوب آبار النّفط، وندرة المياه الصّالحة للشّراب، واتّساع مساحة التلوّث بأنواعه، وغلبة اقتصاد السّوق، وانتشار القرصنة المائيّة والإلكترونيّة والفكريّة.

كيف سيواجه العرب مصيرهم، إذا تمّ تعميم العمل بالسيّارة الضوئيّة، وجرى الاستغناء عن النّفط باعتماد طاقاتٍ بديلةٍ جديدةٍ، إلى جانب الطّاقة الشمسيّة والطاقة النوويّة؟ متى يفكّر العرب في ابتكار اقتصادٍ خدماتيٍ، وفي توسيع مجالات مجتمع المعرفة؟ متى يرتقي العرب إلى الفعل في عصر المعلومات والتّنافذ الرّقمي؟ متى ينتبهون إلى موقعة أنفسهم من حرب اللّغات والحضارات؟ متى يمكن أن يفكّروا في تجربة تحلية مياه البحر، وفي تخضير الصّحراء؟ متى يفكّرون في إستراتيجيّات أمنيّةٍ قوميّةٍ وقائيّةٍ بعيدة المدى؟ متى يعدّون مشروعاً استشرافيّاً للأمن الغذائي؟ متى يفكّرون في حوسبة اللّغة العربيّة، وبعث محرّكات بحث عربيّةٍ، وبنوك مصطلحاتٍ عربيّة وقواعد بيانات ومواقع واب متعدّدة اللّغات، تعرّف بالعربي وتاريخه، وإسهاماته البنّاءة في الفكر الإنساني؟ متى نتحوّل من استهلاك منتجات الحداثة إلى إبداع الحداثة؟

هذه الأسئلة وغيرها تثبت أنّ التّفكير في المستقبل، والعمل على اكتسابه، والفعل فيه قبليّا ضرورة حضاريّة، وحاجة وجوديّة، بقيامها من عدمه، تتحدّد كينونة الأمم، وقدرتها على الخلق والاستمرار، بدل الانهماك في الصّراعات الطائفيّة والحزبيّة والدينيّة والسياسيّة، وبدل إهدار الجهد في إقصاء الآخر، أو التّباكي على الماضي، أو إلغائه، أحرى بنا أن نتمثّل الحاضر، ونستعدّ للمستقبل بالتفكّر والتدبّر والتوقّع، واستباق الحوادث بعلم أسبابها ومخرجاتها.

أنا أنتمي إلى هذا العالم، إذن، أنا موجود. أنا أفكّر في المستقبل، إذن، أنا موجود حقّاً.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.