العرب... الحرية واستبداد التاريخ

18 سبتمبر 2016
+ الخط -
في شبه الجزيرة العربية، ومع التحولات الحضارية المتسارعة على تخوم القرنين السادس والسابع، تزايد دور الرقيق في العملية الاقتصادية الإنتاجية، وكان من السهل تعريف الحرية في مقابل العبودية، وارتبطت الحرية بالفضيلة والعبودية بالرذيلة. وفي معاجم اللغة العربية: الحرية مشتقة من حرّ، والحر عند العرب ضد العبد، وجمعه أحرار، ومؤنثه حرّة، وجمعها حرائر، ويقابلها الأمة والإماء. والحر هو السيد النبيل، والحر في الناس أفضلهم وأخيرهم، والفعل الحر هو الفعل الحسن أو الجميل، والكلام الحر هو الفصيح. وتشير دلالات الحرية في اللغة العربية، دائماً، إلى المفاضلة، ولا تتضمن مفهوما عن المساواة.
تكوّنت حياة البدوي، بشكل رئيس، من أفعاله الخاصة. وعلى الرغم من تدخل من قوى ميتافيزيقية كالغول والجن، بقيت الأحداث من عناصر الماضي والحاضر، ونتيجة لمقاصد الناس وتصرفاتهم. ولم يكن للحدث أن يبرز ذاتاً مستقلةً عن مجرى الوجود الإنساني، يقف مقابل الإنسان مقيداً حريته ومؤثراً في مصيره، فلم تتح التجربة الفردية، ولا خبرات الجماعة البدوية المعزولة الإخلال بالإدراك العفوي المباشر لعلاقة العلة بالمعلول، في سلسلة الحوادث المتتابعة، لصالح قوى مستقلة ومتعالية، ترسم سلفا ما سيحدث.
قبيل الإسلام، ستبرز استقلالية ما لـ"الحدث"، عبرّت عنها مفاهيم، كـ "المنيّة"، وجمعها "منايا"، بوصفها قوى عمياء قانونها المصادفة (رأيت المنايا خبط عشواء من تصب/ تمته ومن تُخطئ يُعمَّر فيَهرَم). و "الدهر"، وعبّر عن تصور خاص للزمن يجلب الخير والشر إلى الحياة، ويضع حدّا لنهايتها (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ). ومع ذلك، لم يقترب مفهوم الدهر من مفهوم القَدر الإسلامي، حيث السؤال بقي هنا: متى يحدث؟ وليس: لماذا يحدث؟
شكّل القرآن نقلة على صعيد الوعي التاريخي لدى العرب، في اتجاه تصور حتمية تاريخية ذات صبغة دينية، وتحدّث عن مشيئة الله، بوصفها علة غائية تتحكّم في مجرى الأحداث الكونية، قضاءً وتقديرا. تكرّرت مادتا "قدر" و"قضاء" في أكثر من موضع في القرآن، ودلّت على معانٍ عدة: المدّة، الإتقان، الإحصاء، وغيرها بالنسبة للأولى. الوصية، الأمر، الوجوب، الهلاك، وغيرها بالنسبة للثانية. لم يحسم إسلام الوحي النقاش حول قضيتي الحرية والجبرية، بل نهى النبي أصحابه عن الخوض فيها، لما تشكله من فتنة واضطراب عقائدي، يمسّ تماسك جماعة المؤمنين.
في الفقه، برزت العبودية عجزاً حُكميا ينتج عن الكفر، والحرية الحقيقية هي الانتقال من عبودية البشر للبشر إلى عبودية العباد لرب العباد. وعلى الرغم من إجماعٍ فقهي على أن الأصل في الإنسان الحرية، تحرّر العبيد من بعض الواجبات الشرعية، كالزكاة والحج، وحرموا من حقوقهم المدنية والقانونية، كحق التملك والشهادة وتولي القضاء.
في علم الكلام، ذهب الجهم بن صفوان إلى أن الإنسان لا يقدر على الفعل، ولا يوصف
بالاستطاعة، ففي تحقيق الفعل للإنسان يكون ما لا يجوز من تشبيه الخالق بالمخلوق. أما المعتزلة، ومع إقرارهم بعلم الله المسبق لما سيحدث للإنسان، رأوا أن ذلك لا يتضمن أي جبريةٍ، فتماشياً مع العدل الإلهي المطلق، لا بد أن يترتب الثواب والعقاب على حرية الإنسان في الاختيار. رفضت الأشعرية آراء المعتزلة التي تهدّد، برأيهم، المفهوم المطلق للمشيئة الإلهية، وذهبوا إلى أن الإنسان مسيّر، لأن لديه القدرة على الاختيار، ومخير في الوقت نفسه، لأن هذه القدرة ليست ذاتية فيه، بل من عند الله. فالأفعال من خلق الله وكسب العبد، وعلى هذا الكسب يترتب الثواب والعقاب.
غاب تعريف الحرية عن معجم الكندي الفلسفي. وليست الفضيلة، عند الفارابي، في الحرية التي تهدّد التعاون الجماعي على تحصيل السعادة، بل في التخلص من ملذات الجسد، بمعرفة الفضائل النظرية والفكرية تحت وصاية رئيسٍ فاضل. وفي الفلسفة الأخلاقية (مسكويه وابن باجة) اختزلت الحرية في حرية الإرادة وتحكّم العقل بغرائز الجسد. أما التحرّر من عالم المادة والجسد لتهيئة الفرد للاستعداد التام لعبودية لله، فتلك هي الحرية الحقيقية عند الصوفية (ابن عربي).
بقي مفهوم الحرية في الموروث العربي الإسلامي حبيس علاقة الإرادة الإنسانية بالمشيئة الإلهية، وانحصرت في مفهومها الأخلاقي، ولم يؤسّس الفكر العربي الإسلامي، بأنساقه المعرفية المختلفة، مفهوماً للحرية، يتضمن الموقف من علاقة الإنسان بالنظام الاجتماعي السياسي.
مبكراً، صادرت مطالبَ الجماهير المشروعة الحركاتُ الاجتماعية الأيديولوجية التي انطلقت خارج المدن، وبعيدا عن مركز الخلافة، لتنافس السلطة السياسية القائمة على احتكار تمثيل المشيئة والحق الإلهيين. ومع تمركز المعارضة، في أواخر العصر الإسلامي الوسيط في المدن الكبرى ومراكز الخلافة، لا نجد في المؤلفات العربية الإسلامية برامج معارضة، مع حدٍّ أدنى من وعيٍ بحقوق مدنية وسياسية، بل مجرد موقف سلبي من أعمال الظلم والفوضى (بقيت المواقف الأكثر حسماً من دون أن تنال حظها من التدوين الكتابي؟).
وتحت وطأة انتفاضات العيّارين والرعاع، كما يصفها مؤلفو تلك الحقبة، سقطت أحياء ومدن بأكملها في أيادي المنتفضين، وفي غياب إدارة مدينية ذاتية لتلك المناطق، لم تستطع تلك الانتفاضات الاحتفاظ بها، واكتفت بتحصيل بعض الحقوق، أو تغيير الحاكم، أو استُرضي بعض قادتها بمناصب في الدولة، من دون امتلاك بديل سياسي للنظام القائم. أما الانقسامات الطائفية، فأدت إلى سياسة الاستقواء بالآخر (سقوط بغداد 1258 نموذجا).
تحت الهيمنة الاستعمارية، أصبحت الحرية تعني الحق في تقرير المصير، والتخلص من الوصاية الاستعمارية. قضت العسكرتاريا العربية على القاعدة السياسية للقرار الجماعي التي توفرّت تحت الانتداب وبُعيد الاستقلال. وعلى غرار نموذج الحزب الطليعي اللينيني الذي يمتلك معرفةً بقوانين التاريخ، تمنحه حق التفرّد بالسلطة، حلّت وصاية الحزب الواحد مكان وصاية الانتداب، ليختزل من ثم الحزب والوطن في الشخصية الكاريزمية للقائد الذي يحتكر المعرفة والفضيلة، ممثلاً حتمية التاريخ، ومشيئة ما فوق التاريخ.
صحيح أن الحرية مفهوم مجرّد، ولا توجد حرية مطلقة، ولكل شعبٍ أن يطوّر مفهومه الخاص عنها. لكن، أن يكسب شعبٌ ما الرهان الحضاري الوجودي، يتوقف على أن يتحوّل هذا المفهوم إلى نظريةٍ، تصبح بدورها قوةً مؤثرةً وفاعلةً في تاريخ هذا الشعب.
في غياب النظرية، وغموض المفهوم المؤطر تراثياً، بقي العرب ضحايا استبداد التاريخ. واليوم، مع إخفاق ربيعهم، يسود خطاب التوجس الذي تقوم مفرداته على مبدأ "أين كنّا وأين أصبحنا"؟ ويمسي استبداد الماضي أكثر رحمةً من فوضى الحاضر وغموض المستقبل.