العربي المأمول

03 سبتمبر 2014

العدد الأول من صحيفة العربي الجديد

+ الخط -

كأنما أريد من إطلاق "العربي الجديد" اسماً لهذه الصحيفة، القول إن النمط السائد من إنسان هذه الأمة، في اجتماعه السياسي، وفي صوابية وحماسة تفاعله مع قضاياه؛ بات إما منتهي الصلاحية، بالتقييم العام، أو يتطلب تجديداً يؤهله لبلوغ سوية الرفعة.  فربما يُقال مجازاً، إن أمةً ما، في حقبةٍ ما، خرجت من التاريخ، وإنْ ظلت ماكثة في الجغرافيا. لكن، التاريخ يعتصر، ويحشر الأمم المنتكسة، ولا يطردها. ربما لو أنه يطردها، ويرفع عنها القلم، لأراحها وارتاح منها. لذا، تصبح الأمم التي تمر بمراحل انكفاء، في السياق التاريخي، أمام أحد خيارين، أن تظل ذميمة و"ملطشة" للأمم، أو أن تنهض وتحقق عزتها. أما خيار الخروج من سياق التاريخ وضوابطه وما يسجله لها أو عليها، فهو غير متاح.

ليس المقصود، بالطبع، أنها دعوة لعربي جديد على مستوى التكوين البيولوجي. فالمرتجى هو ذهنية وإرادة ونسق جديد. نحن، اليوم، حيال ثقافة تتفكك، وانتماءات تنشطر إلى أصغر فأصغر، واستباحة قصوى لمصائر الناس، ومقدراتها وأوطانها. رب قائلٍ إن رزيّة العرب تكمن في أيديولوجياتهم، وهذه فرضيةٌ تدحضها تجارب أمم أخرى، بل تدحضها تجربة شعب اللمم الذي يستقوي بجيشه في المنطقة العربية ويعربد، بينما هو ينطوي على أيديولوجية جدّ ظلامية، ويتصدر المشهد عنده مهووسون متطرفون، لا فرق بين معرفتهم بقيمة الإنسان الآخر، وكرامته وبقيمة العلاقة البناءة بين الأمم؛ ومعرفة الجماعات البدائية أو الهمجية في مراحل ما قبل الكتابة. فهؤلاء الذين استقرت أذهانهم على عفونة يستحيل تطهيرها؛ امتلكوا النسق، ونام وقام اجتماعهم السياسي، على هاجس المصير والوجود. فليس أكثر بؤساً في حياة أمة من أن تستهتر بكيفية وجودها وبمصيرها. وإن تحسّست الأمم المنكفئة الحاجة إلى تغيير واقعها، فلا بد لها من معالجة أسباب الإحباطات، وأن تغشى السياسة لمجاهدة المصاعب والمحن، من باب الاجتماع.

فقد كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، أوغست كونت، قد دعا الناس إلى التأمل في واقع التردي، وإلى أخذ الملاحظات، من المرارات والجراحات ووقائع الموت التي تعرّض لها الفرنسيون، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وربما يكون حجر الأساس في فلسفته ما سمّاه وحدة الناس على قاعدة المشتركات والأواصر بينها. فالوحدة هي النمط الطبيعي للوجود الإنساني، وهي لن تتأتى من دون أن تصبح الأولوية للكل على الجزء، وتقديم الاجتماعي على الفردي والخاص.

اليوم، نحن مطالبون بجعل الأولوية لقضايا المصير، وللارتقاء بكيفية الوجود. وهنا، ينشأ دور النُخب المأمولة التي تتحمل العبء الأكبر في عملية النهوض، وتُعيد الاعتبار للأواصر الأزلية بين شعوب الأمة العربية التي انفجرت مجتمعاتها أو كادت، أو انطوت على قلقٍ واحتقان، بسبب فشل الدولة الوطنية في أداء وظيفتها حاضنة للشعب بكل أطيافه، علماً أن صيغة الدولة لم تنشأ إلا على قاعدة التوافق بين الجماعات البشرية، لكي تكون هذه الدولة حَكَماً نزيهاً بين الناس.

يأخذنا العربي الجديد، المُرتجى، إلى إعادة النظر في بُنية الدولة. فمن الأسباب الرئيسة للانكفاء، هو فشل الدولة الوطنية في العالم العربي، على صعيد تحديات التنمية والأمن القومي والنزعات البينية. ولمّا أخفقت لجأت إلى الاستبداد، أو إلى افتعال الخصومات، وتركت كل شيء يتداعى، لكي تتمكن من تسويق زعمها أنها ضامنة الوحدة التمامية للأراضي، ووحدة الشعب واستقراره. فقد كانت ذرائع الدفاع عن أنظمة القمع والإفقار وضياع الأفق أمام الأجيال تدور كلها على تخويف الناس من كابوس التقسيم والغزو الأجنبي، ومن رياح النزاع الأهلي المفتوح الذي زرعت بذوره واصطنعت تربته، عندما أحلت هواجس البغضاء بدل ثقافة الوئام. وكأنها هي، وليس الشعب، ضامنة الاستقرار وشرطه الأول والأخير.