العربي الجديد من التثوير إلى التدجين

25 يونيو 2017
+ الخط -
لا عن الصحيفة ندوّن، ولا عن وسائل الإعلام التي تطالب دول الحصار بحجبها فقط، بل عن ذاك العربي الجالس خلف حاسوبه يتجوّل بين وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي، والمبحر في قنوات التلفزة المختلفة، وعن الإنسان المحاصر والمعذب والمهجّر والمُحتل والمقهور، بعد عقود من التدجين الرسمي ومحاصرة العقل بقوالب التعليب الإعلامي، كان الانفجار الكبير لثورة الإعلام والاتصالات يقوم بهدم تلك القوالب، ويكشفها ويعرّيها بشكل مرير، ليبقى الإعلام الرسمي مصاباً بمصداقيته على الرغم من استخدام بعضه وسائل تطور الإعلام وتسخير إمكانات مادية هائلة لكنه فشل بشكل ذريع في إعادة قولبة عقل المتلقّي وإرجاعه عقوداً للخلف.

إمبراطوريات مالية كبرى أنشأت في حقبة السبعينيات والثمانينيات شبكات إعلامية كبرى، استثمرت في الصحف والمجلات المطبوعة آنذاك واتخذت عواصم أخرى غير بلدانها لطباعة صحفها، وصولاً لانطلاق البث الفضائي بداية تسعينيات القرن الماضي والاستثمار به أيضاً من ذات الإمبراطوريات المالية، لكنها فشلت بشكل كامل في الحفاظ على قولبة العقل العربي، مع ظهور الجزيرة والاستثمار القطري في وسائل إعلام خطها مغاير تماماً لتلك التي بقي النظام الرسمي العربي حتى اليوم يعوّل عليها لكي وعي الشارع العربي الذي شهد المختلف في طرح الأسئلة الناقدة والنافذة التصاقاً بواقع الإنسان على امتداد الشارع العربي.

ينظر المعتقل، والمقهور والمظلوم، المثقف والأديب، الروائي والسياسي، المعارض والمناصر، المدون والناشر، الإنسان الهامشي واللامع، ينظرون إلى منصات الإعلام القطرية من زاوية الأهمية الكبرى لتأثيرها في الوعي والوجدان، على اعتبار أن اعتلاء أحدهم ناصية أي وسيلة من تلك الوسائل يعني وصوله لبقية شرائح المجتمع من دون عناء اللف والدوران والقولبة والتعمية، وهو ما يفسر الشرط القاسي للدول المحاصرة لـ قطر بإغلاق المنصات الأقوى تأثيراً في عملية تثوير عقل الإنسان العربي، وكيف لهذا العقل أن يرضخ مجدداً لأدوات الحجب والتعمية والمنع، وكيف له القبول مجدداً بكبوة الضمير والأخلاق وأن يقبل إعادة تدجينه في حظيرة إعلام وظيفته قتل الإنسان ومنع الأحلام بعد أن لامس جلها في يقظته الثويرية وعايش مراحل تطور نقل الحدث مشاركة وتفاعلاً وصناعة.

لنتخيل مثلاً، في الديمقراطيات الإعلامية الغربية، مساراً مشابهاً للانقضاض على وسائل إعلام جماهيرية، ومطالبة عودة الإعلام الألماني مثلاً لعهد اريش هونيكر وغوبلز، مع أن هناك أنظمة في المنطقة تمارس ما هو أبشع من الغوبلزية، ويتمنى بعض آخر أن تكون له حرفية اريش هونيكر وقبضتا فرانكو وبينوشيه في الرقابة وقمع حرية الرأي والتعبير، لكن طرق الأبواب صراخاً من رعب الإعلام القطري في القرن الحادي والعشرين مع إفرازاته الثورية في وسائل التواصل والبث الفضائي وتعدد مصادر الخبر والمعلومة، يكشف بؤس الادعاء بمواكبة تطورات العصر واحترام قيمة وعقل الإنسان، وتكشف أيضاً هزيمة الإعلام المفترض ممارسته منافسة بشكل يحترم القيمة الحقيقية لوظيفة الإعلام، لكن الوظيفة تختلف عن قصة احترام القيمة كما قلنا بعدما بات المطلوب العودة للتدجين.

تجد دول الحصار العربي صعوبة وتعقيداً في أمر مطالبها، ليس فيما يخص ورقتها التي باتت محل استهزاء من ذات الجمهور المطلوب أن يسلم عقله لتلك المزاعم، بل فيما يخص الإعلام تحديداً، وهو الذي شهد خروجه من شرنقة التدجين ليعاد مرة أخرى بأسلوب التهديد والوعيد بجره من أذنه وعينه وعقله نحو زنزانة تمجيد الابتذال.

كلنا ثقة بأن العربي الجديد لن يعود لحظيرة التدجين، وإعلام الشعوذة الرسمي سقط في امتحاناته منذ ستة أعوام، يغرق اليوم في بحر دماء الضحايا، وهو يحاول إنقاذ سفينة الطغاة والمستبدّين يحمل مجاذيف الترهيب ضد النبراس الجديد والأصيل، ومن امتلك وشهد ناصية الحق والأخلاق والضمير لن يقبل بالتدجين من جديد لأن يقينه لا يتبدل، إن الكارثة في فعل الاستبداد لا الإعلام.

AF445510-4325-4418-8403-7DA0DAAF58C1
نزار السهلي
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في فرنسا يقول: طقسٌ رتيب في الرحيل وشقاء ولجوء، يعقبه حلم لا ينطفىء في زمن غير معلوم تحدده الإرادة العليا، هي ملامح سحنتي التي تشبه انتحاب اللاجئين في المُثل الواهمة.