غداة مهلة الأسبوعين لحكومة عادل عبد المهدي من قبل المرجعية الدينية العليا في مدينة النجف يوم الجمعة الماضي، لتقديم المتورطين بقتل المتظاهرين والكشف عن هوية القنّاصة المجهولين الذين استهدفوهم خلال التظاهرات التي شهدها العراق في الأيام الأخيرة، أكد مسؤول عراقي رفيع في بغداد، لـ"العربي الجديد"، أن التحقيقات قد تطيح قيادات وضباطاً كباراً، بعد الكشف عن شهادات تتحدث عن مكالمات هاتفية وبرقيات خلال فورة التظاهرات تكشف عن منح أوامر لعناصر الأمن بـ"التصرف" لفضّ التظاهرات، ومعلومات أخرى عن السماح لوحدات الأمن بسحب ذخيرة واستخدامها من دون سؤالهم أو محاسبتهم من قبل القيادات الأمنية التي وقّعت على محضر تجهيز الذخيرة. ولفت إلى أن الشرطة الاتحادية، وجهاز فضّ الشغب وقوات "سوات" كانت الأكثر قمعاً للمتظاهرين، فيما تشير التفاصيل إلى أن القناصة ينتمون إلى مليشيا مسلحة مقربة من إيران وتعمل ضمن هيئة الحشد "الشعبي"، واستهدفت من رصدته في التظاهرات كقيادي أو موجِّه لحركة المتظاهرين وجموعهم.
وفسّر مراقبون مهلة الأسبوعين بأنها تتزامن مع انتهاء إحياء أربعينية الإمام الحسين، التي توافق في 20 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وهو التاريخ ذاته الذي تسعى الحكومة إلى تجميد التظاهرات فيه أيضاً وإعادة الأوضاع إلى طبيعتها، خصوصاً في بغداد وبابل والنجف وكربلاء وذي قار والبصرة، التي تُعَدّ ممرات السير البرية إلى العتبات المقدسة في كربلاء لملايين الزائرين.
وأمهل المرجع الديني في مدينة النجف، علي السيستاني، حكومة عبد المهدي مهلة أقصاها أسبوعان، لكشف المتورطين بعمليات قتل "المتظاهرين المطالبين بحقوقهم المشروعة" وقمعهم. وتُعَدّ خطبة المرجعية يوم الجمعة، الأقوى في النجف منذ عام 2014 التي اعتُبرت حينها إشارة إلى سحب البساط من تحت رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بعد اصدارها فتوى الجهاد الكفائي ضد تنظيم "داعش"، فيما رأت جهات سياسية أن السيستاني قلب الموازين على حكومة عبد المهدي بوقوفه بوضوح وصراحة مع المتظاهرين، وهو إنذار بسحب الثقة عن الحكومة الحالية.
ونقل عبد المهدي الكربلائي، معتمد المرجعية، عن السيستاني قوله في خطبة صلاة الجمعة في كربلاء، إن "المرجعية الدينية تعلن تضامنها مع المتظاهرين السلميين، وترفض الاعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون والقوات الأمنية، كذلك فإن المرجعية لن تقبل التسويف في ملاحقة المعتدين على المتظاهرين". وأضاف الكربلائي، نقلاً عن السيستاني: "نعبّر عن رفضنا للاعتداءات التي حصلت بحق المتظاهرين والقوات الأمنية، ولا نقبل التسويف بملاحقة المعتدين وبوقت أقصاه أسبوعان، كذلك فإن الحكومة والأجهزة الأمنية مسؤولة عن الدماء الغزيرة التي سفكت خلال التظاهرات". وشدّد السيستاني، وفق خطبة الجمعة، على أنه "يجب وضع حد للذين يهددون ويضربون ويخطفون ويقنصون بلا رقيب، والمرجعية لن تنحاز إلا إلى الشعب، ولا علاقة لنا بأي جهة سياسية أو حكومية، وسيبقى صوتنا مع المحرومين والمظلومين من أبناء الشعب مهما كانت انتماءاتهم".
وأصدر عبد المهدي بياناً مقتضباً قال فيه إنه "استجابة لخطبة المرجعية الدينية العليا شكلت الحكومة لجنة تحقيق عليا تضمّ الوزارات المختصة والأجهزة الأمنية وممثلين عن مجلس القضاء الأعلى ومجلس النواب ومفوضية حقوق الإنسان للوصول إلى نتائج موضوعية وأكيدة، لإحالة المسببين على القضاء لينالوا جزاءهم العادل، وعدم التأخر في ملاحقتهم واعتقالهم وتقديمهم إلى العدالة مهما كانت انتماءاتهم ومواقعهم".
وكشف مسؤول في بغداد لـ"العربي الجديد"، أن هناك آمري ألوية وأفواج، ومسؤولين في مكتب عبد المهدي ومكتب مستشار الأمن الوطني فالح الفياض، يقفون وراء إعطاء الأوامر بإطلاق النار وقمع المتظاهرين، خصوصاً بين 3 و6 أكتوبر الحالي. وأكد أن التحقيقات الحالية كشفت عن وجود أوامر وتوجيهات بقمع المتظاهرين في ساحة التحرير والطيران وقرب مستشفى الجملة العصبية ليلة السبت وشارع الفلاح وساحة مظفر في مدينة الصدر مساء اليوم التالي (الأحد) من الأسبوع الماضي، صادرة من قيادات أمنية رفيعة على صلة بمكتب رئيس الحكومة نفسه. وأوضح أن أغلب الوحدات الموجودة سحبت ذخيرة من مخازن وحداتها من دون الاستفسار عن مصير الذخيرة السابقة التي لديها، وتوثيق ذلك بمحضر قانوني كما هو السياق المعتمد، بل زُوِّدَت بالذخيرة الجديدة مع قنابل غاز ودخان. وهذا ما يؤكد أن هناك علماً مسبقاً لدى القيادات الأمنية بكيفية انتهاء الذخيرة التي لديها.
وأشار إلى أن الوحدات التي شاركت في قمع تظاهرات مدينة الصدر، تتألف من مقاتلين شاركوا في الحرب ضد "داعش"، وهذا خطأ كبير في دفع قوات قتالية عنيفة إلى داخل المدن للتعامل مع المواطنين المتظاهرين. وكشف عن أن التحقيقات الحالية تواجه صعوبات كبيرة من قبل مسؤولين وقيادات في "الحشد الشعبي" لحرفها ومحاولة تحميل أغلبها إلى وحدات الجيش العراقي، التي نزلت إلى شوارع بغداد والجنوب بعد اشتداد التظاهرات، على اعتبار أن الجيش مؤسسة عسكرية كبيرة غير محسوبة على أي حزب أو جهة سياسية كما هو الحال بالنسبة إلى الشرطة الاتحادية وقوات "سوات" وجهاز فضّ الشغب وأمنية "الحشد"، التي تُعَدّ أجهزة مرعية من قبل جهات سياسية أشرفت على تأسيسها، أو أن أغلب قيادات تلك الأجهزة من الموالين لها. واستدرك قائلاً: "لكن دخول المرجعية على خط التحقيقات ومطالبتها بالكشف عن المتورطين قد يسهل من المهمة التي ستطيح قيادات ومسؤولين كباراً في مكتب رئيس الوزراء ومسؤولين في الكرخ والرصافة وذي قار". ولفت إلى أن قوات الأمن في بغداد وذي قار كانت الأكثر تجاوزاً للقانون وانتهاكاً، وهناك تورط لمسؤولين محليين في محافظتي القادسية وذي قار في التشجيع على قمع المتظاهرين وفتح النار عليهم.
وحتى يوم أمس السبت تفاوتت حصيلة المصادر الطبية العراقية بين 113 و121 قتيلاً في عموم العراق إضافة إلى أكثر من 6 آلاف جريح، غير أن هناك مصادر طبية تتحدث عن أن الرقم أعلى من ذلك بعد تسجيل وفيات أخرى في المستشفيات العراقية، وسط استمرار غموض يلفّ مصير عدد من المتظاهرين سجل اختفاؤهم.
من جهته، نشر الخبير هشام الهاشمي إحصائية لضحايا التظاهرات والمشاركين فيها، فأكد أن 57 في المائة من الجرحى في التظاهرات هم عاطلون من العمل، وأن 66 في المائة من المتظاهرين هم من مناطق شرقي العاصمة (المناطق الأكثر فقراً)، وأن 90 في المائة من الضحايا غير منتمين سياسياً، وأن 22 في المائة من كل المتظاهرين لديهم تحصيل جامعي، والآخرون دون ذلك.
وتعليقاً على هذه التطورات، قال النائب جاسم البخاتي عن كتلة الحكمة البرلمانية، بزعامة عمار الحكيم، لـ"العربي الجديد"، إن "بعض القوى السياسية الداعمة لحكومة عبد المهدي، روجت في الساعات الأخيرة أن المرجعية تقف إلى جانب الحكومة وتدعمها، لكن من خلال خطبة الجمعة الأخيرة، تأكد عدم صحة ذلك، إذ أعلنت بوضوح أنها لا تدعم الحكومة، بل هي مع الشعب العراقي في مطالبه المحقة". ولفت البخاتي إلى أن "خطبة المرجعية، كانت واضحة جداً، وهي تختلف على باقي خطبها، خصوصاً أنها أشارت إلى وجود انفلات أمني، وهو خارج منظومة الدولة العراقية، وهذا الانفلات حصل من خلال قمع المتظاهرين السلميين وقتلهم من قبل جهات تدعي حماية النظام". وأضاف أن "المرجعية أعلنت بوضوح وصراحة وجود جماعات ومليشيات خارجة عن القانون، قمعت وقنصت المتظاهرين، وحمّلت الحكومة مسؤولية ما قامت به هذه الجماعات، وبحال عدم كشف تلك الجهات سيكون خطاب المرجعية في تصاعد مستمر ومتواصل، وقد يكون التصعيد بنحو تغيير الحكومة، وفق ما ينادي به المتظاهرون".
من جهته، رجح القيادي في ائتلاف "دولة القانون" سعد المطلبي، أن يكون هناك موقف آخر للنجف في حال انتهاء الأسبوعين ولم تقدم الحكومة ما يخلي ساحاتها من قتل المتظاهرين أو يكشف المسؤولين عنه. وقال المطلبي، لـ"العربي الجديد"، إن "المرجعية قد تطالب بسحب الثقة عن حكومة عادل عبد المهدي، فالعنف الذي استخدم ضد المتظاهرين لا يتناسب تماماً مع أي نظام ديمقراطي، ولا يتناسب مع حركة احتجاجية لفقراء طالبوا بحقوقهم"، معتبراً أن الموقف الجديد للمرجعية قد يعطي دافعاً قوياً للاستمرار بالتظاهرات.
في المقابل، اعتبرت المتحدثة باسم "ائتلاف النصر" آيات مظفر نوري، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن النجف "وضعت حكومة عبد المهدي في موقف محرج وبوقت محدد، وعلى الحكومة الإعلان عن الجناة والجهات التي تقف خلفهم ومحاسبتهم، وهذا هو واجب الحكومة الطبيعي الذي لن تشكر عليه أو تأخذ المماطلة والتسويف (كعادتها) وحينها ستنضم المرجعية بشكل مباشر وعلني ضد الحكومة لتقوى جبهة المتظاهرين وبالتالي الذهاب لإجراء انتخابات مبكرة، وكذلك الضغط لتعديل قانون الانتخابات وتغيير المفوضية، كل هذه الإجراءات غرضها إعادة الثقة للمواطن بالعملية السياسية ورسم خريطة طريق لمصالحة وطنية بين السلطة السياسية والشعب".