العدالة الجنائية الانتقالية وجرائم الحرب

23 اغسطس 2016

قضاة في محكمة الجنايات الدولية: البحث عن القصاص (10مارس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
يعيش العالم في شكل قرية صغيرة، نتيجة ثورة الاتصالات التكنولوجية التي سهلت عملية الاتصال بين مختلف الشعوب، ونقل المعلومات وانتشارها بسرعة. فبات من الصعب إخفاء أي انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، في زمن تزايدت فيه حدة الصراعات الدولية والحروب في عدة دول، باتت تهدد حياة الإنسان واستقرار الدول، فما يحدث في فلسطين والعراق وسورية يوميا من جرائم شنيعة، قضى فيها مدنيون أبرياء من مختلف فئات المجتمع، أصبح حديث وسائل الإعلام. ولذا، تعد آليات العدالة الجنائية من وسائل الحيلولة دون وقوع هذه الجرائم، باعتبار أن الأمر ضروري لتحقيق العدالة والسلام والتصالح بين الشعوب.
وجود المحكمة الجنائية الدولية آلية دائمة تختص بمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الأشد خطورة، والتي تكون محل اهتمام المجتمع الدولي ككل، يعتبر فقزة نوعية في تاريخ القضاء الجنائي الدولي، نتيجة عدم نجاعة المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة التي تنشأ من أجل محاكمة المجرمين لإقليم محدّد وجرائم معينة، كالمحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا سابقاً ورواندا خصوصا، وتواجه مثل هذه المحاكم، عند إنشائها اعتبارات السيادة الوطنية التي لا يجوز المساس بها بأي حال، بإعتبارها تحل محل المحاكم الوطنية، لتحاكم مرتكبي الجرائم الدولية، وهو ما يعد مساسا بالمجال المحفوظ للدولة الذي تستأثر به وحدها، من دون تدخل أجنبي.

وفيما يخص الجرائم التي تدخل في الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية، فقد أشارت إليها المادة الخامسة من نظامها الأساسي، والتي تشمل جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، أما جريمة العدوان فقد تم تأجيل ممارسة المحكمة اختصاصها عليها، حتى يتم التوافق الدولي بشأنها، كما أن هذه الجرائم التي تعد انتهاكاتٍ جسيمة للقانونين الدوليين، الإنساني ولحقوق الإنسان، لا تسقط بالتقادم، ما يعني أن كل من ارتكب هذه الجرائم، أو ساهم في ارتكابها، رئيساً كان أو عضواً في الحكومة أو قائداً عسكرياً أو مدنياً، تبقى المسؤولية الجنائية قائمة في حقه، مهما طال الزمن، وهذا ما تضمنته المادة 29 من نظام المحكمة الجنائية الدولية التي نصّت على أنه "لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم، أياً كانت أحكامه". ويُستفاد من عبارة "أياً كانت أحكامه" أنه لن يكون في مقدور أي من الدول الأطراف وضع قيد زمني لحماية الشخص من العقاب، لكن المشكل يتعلق بالعقوبة، بحيث لم يتضمن نظام المحكمة الجنائية الدولية أي نصٍّ حول تقادم العقوبة الصادرة في حق المجرمين المرتكبين جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. لكن هذا لا يمنع من إعمال طريقة القياس، من باب أولى، من أجل تقرير عدم تقادم العقوبة الصادرة عن الجريمة الدولية، كون أن العقوبة هي نتيجة حتمية للجريمة، إضافة إلى أن نصوص النظام الأساسي تشكل وحدةً واحدة. وقاعدة عدم التقادم لا يعترف بها القانون الوطني، غير أن هذا لا يعني أن هناك تعارضاً بين نظام المحكمة الجنائية الدولية والأنظمة الوطنية، على أساس أن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، بمقتضى العرف، لا تسقط بالتقادم.
واقتصار اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على هذه الجرائم هو عدم توسيعه بشكلٍ لا يتفق ولا يتماشى مع الإمكانات المتاحة في بداية عملها، وكذا تطبيق مبدأ التكامل بين اختصاص المحكمة الجنائية الدولية والاختصاص الوطني، على أساس أن الأخير هو صاحب الولاية الأصلية في مساءلة مرتكبي الجرائم الدولية. وفي حالة عدم قدرة أو عدم رغبة القضاء الوطني في مساءلة المجرمين، يؤول الاختصاص إلى المحكمة الجنائية الدولية.

جرائم الحرب
عكس نظام المحكمة الجنائية الدولية التطور السابق الحاصل في القانون الدولي العرفي، فيما يخص الأفعال التي تشكل جرائم حرب، حيث تضمنت المادة الثامنة منه قائمة من الأفعال التي تشكل جرائم حرب ترتكب في النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة الداخلية، وقد شملت أربعة أنواع من الجرائم:
- الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف (1949)، مثل القتل العمد والتعذيب وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها، الإبعاد أو القتل أو الحبس المؤقت وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها، الإبعاد أو القتل أو الحبس غير المشروع وأخذ الرهائن، إرغام أسرى الحرب أو الأشخاص المحميين على الخدمة لصالح الأعداء...إلخ.
- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، مثل تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، تعمد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية، إساءة استعمال علم الهدنة، أعمال نهب، استخدام الأسلحة المسممة والسموم...الخ.
- الانتهاكات الجسيمة للمادة الثانية المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، كاستعمال العنف ضد الأشخاص والاعتداء على كرامة الشخص، وأخذ الرهائن وإصدار أحكام وتنفيذ إعدامات من دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلة تشكيلاً نظامياً.
- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية في المنازعات المسلحة غير الدولية، مثل تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين وضد المباني والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد وأعمال النهب.
وفي المؤتمر الاستعراضي في العاصمة الأوغندية كمبالا بين 31 مايو/ أيار و11 يونيو/ حزيران 2010، أضيفت بعـض الأفعـال التـي تشكـل جرائـم الحرب فـي زمـن النزاعـات المسلحـة الداخليـة. وتشمل جرائم الحرب التي ترتكب باستخدام السموم أو الأسلحة المسممة التي ترتكب باستخدام الغازات أو السوائل أو المواد أو الأجهزة المحظورة، وكذا جريمة الحرب التي ترتكب باستخدام الرصاص المحظور التي تمتد أو تتسطح بسهولةٍ في الجسم البشري، مثل الرصاصات ذات الأغلفة الصلبة التـي لا تغطـي كامل جسم الرصاصة أو الرصاصات المحرّرة الغلاف.
وقد ثار خلاف حول الفقرة الأولى من المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حول ما إذا كان يستلزم إدراج الجرائم التي ترتكب "في إطار خطة أو سياسة عامة" ضمن اختصاص المحكمة، أو يكفي أن ترتكب الجرائم في نطاق محدود، أو ما تعرف بالجرائم المنفصلة. وفي النهايـة، تم حسم الأمر بإدراج عبارة "ولاسيما"، ليصبح تعريــف جرائــم الحـرب علـى أنـه "يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بجرائم الحرب، ولاسيما عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم".
وبالتالي، نجد أن الفقرة المشار إليها، من نظام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، تجنبت التعريف التقليدي الذي ظل مقترناً بهذه الجرائم، والمتمثل في الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحـرب وأعرافها، كما استُبعدت من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الجرائمُ التي تحدث في حالات الاضطرابات والتوترات الداخلية، مثل أعمال الشغب، أو أعمال العنف المنفردة أو المتقطعة، أو غيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة، كما أن المادة 8 أوردت أن المسؤولية الجنائية الفردية للمسؤولين السياسيين في الدول لا يمكن الاحتجاج بها في حالة وجود نزاع مسلح داخلي، من شأنه المساس بوحدة الدولة وسلامتها الإقليمية، وهو ما يمكن اعتباره قيداً على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، فيما يخص جرائم الحرب التي تشكل انتهاكاتٍ جسيمةً للمادة الثالثة المشتركة في النزاعات المسلحة الداخلية، والتي يرتكبها الأعوان السياسيون.
ومن النقائص التي شابت المادة 8 من نظام المحكمة الجنائية الدولية أنها لم تتضمن تجريماً لأسلحة الدمار الشامل، بشتى أنواعها، كالأسلحة النووية والأسلحة البيولوجية والأسلحة الكيماوية، وخصوصاً أن خطورتها تفوق خطورة الأسلحة التي شملتها القائمة الواردة فيها.
ويكفي مثالاً عليها ما خلفته القنابل الذرية في المدينتين اليابانيتين، هيروشيما وناغازاكي، في العام 1945، من دمار على الممتلكات ومئات القتلى. تماشياً مع رغبة الدول الكبرى التي تملك الأسلحة النووية التي لا تعترف أصلاً بوجود قاعدة في القانون الدولي تحظر الأسلحة النووية وكل ما يماثلها بشكل كامل، وعلى أساس أن هذه الجرائم ذات خطورة وآثار بليغة فإن استعمالها لا يكون إلا بعلم وتوجيه مباشر من الرؤساء والقادة، الأمر الذي يجعل من عدم تجريمها تنصل الرؤساء والقادة من مسؤوليتهم عن جرائم الحرب. 

تعليق اختصاص الجنائية الدولية
ما يؤخذ عن نظام المحكمة الجنائية الدولية أنه تضمن حكماً انتقالياً في ما يتعلق بجرائم الحرب، تضمنته المادة 124، مؤداه أنه يجوز لأية دولة تصبح طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تعليق اختصاص المحكمة، بالنظر في جرائم الحرب التي قد ترتكب على أراضيها، أو من مواطنيها سبع سنوات، تسري من بداية نفاذ النظام الأساسي للمحكمة في حقها، بموجب إعلان تودعه لدى المحكمة، وهو ما يسمى نظام Opting Out. وجاء هذا الحكم باقتراح من فرنسا التي كان موقفها إزاء المحكمة الجنائية الدولية مرهوناً بإدراج هذه المادة التي اعتبرتها أفضل تسوية. أما الولايات المتحدة الأميركية فقد طالبت بتوسيع هذا الحكم، ليشمل الجرائم ضد الإنسانية عشر سنوات قابلة للتجديد، لكن الهدف الأساسي من هذا الحكم هو تجنب مساءلة مواطني الدول الكبرى، خصوصا أفراد القوات المسلحة العاملين في إطار القوات الأممية لحفظ السلام أمام المحكمة الجنائية الدولية. وعليه، يسمح هذا النظام لأي دولة، متى كان في صالحها منع المحكمة الجنائية الدولية من مزاولة اختصاصها بشأن جرائم الحرب، أن تعلن تعليق اختصاصها سبع سنوات. ويعتبر هذا الحكم الانتقالي الذي تضمنته المادة 124 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تحفظاً يتنــاقض مع الحكم الوارد في المادة 120 من نظام المحكمة الجنائية الدولية التي تقضي بعدم إبداء أي تحفظــات على الأحكام الواردة في النظــام الأســاسي للمحكمة، من أجل عدم الحــد من فاعلية دور المحكمة الذي وجدت لأجله.
وكان مؤتمر كمبالا في العام 2010 قد اقترح فيه إلغاء المادة 124 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث رأت أغلب الدول المشاركة أن من شأن إدماج هذه المادة أن يضعف من فاعلية دور المحكمة في قمع الجرائم الأكثر خطورةً، على أساس أنها لا تنطبق مع الهدف المنشود الذي وجدت لأجله، والمتمثل في الحد من الإفلات من العقاب. في حين رأت دول أخرى ضرورة إبقاء هذه المادة على أساس أنها تسمح بانضمام أكبر عدد من الدول إلى المحكمة الجنائية الدولية، غير أن المناقشات انتهت بإبقاء هذه المادة، من دون تعديلها. وبرّرت الدول ذلك بأن هذه المادة تساعد على عالمية العقاب التي يهدف إليها نظام روما الأساسي، ولكن هذا يعتبر تناقضاً مع الأحكام التي أرساها المؤتمر الاستعراضي، والمتمثلة أساساً في ضرورة تعزيز التعاون الدولي في مجال مكافحة الجرائم الدولية وتفعيله.
ما يمكن قوله إن الحكم الوارد في المادة 124 يعد بمثابة عدالة انتقالية، في ما يخص ممارسة المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها يضعف من فعاليتها، باعتباره ترخيصاً قانونياً للإفلات من العقاب، على أساس أن الدول الرافضة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يمكنها أن تقوم بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، من دون أن تستطيع المحكمة القيام بأي إجراءٍ قانوني بمتابعتها، لاسيما أن الجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة في إطار المحكمة الجنائية الدولية تتداخل فيما بينها، وهذا ما يبدو جلياً في جريمة القتل العمد التي تعد مشتركةً بين أنواع الجرائم الدولية الثلاث. وبالتالي، يؤمل أن يتم إلغاؤه في المؤتمر الاستعراضي الثاني لنظام المحكمة الجنائية الدولية المقرر أن يعقد في 2017، وفقا للمادتين 121 و 123 من نظامها الأساسي، لأن ترك هذا الحكم الانتقالي بالنسبة لجرائم الحرب يعطي انطباعاً أن هذه الجرائم ليست على قدرٍ من جسامة (وخطورة) الجرائم الأخرى التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لاسيما أن اتفاقيات القانون الدولي الإنساني تشدّد على مساءلة مجرمي الحرب، مهما كانت جنسيتهم، أو مكان ارتكابهم هذه الجرائم.





752CF8D7-AB2C-432E-A34D-570C2222E5BC
752CF8D7-AB2C-432E-A34D-570C2222E5BC
سامية صديقي

باحثة جزائرية في القانون الدولي، أستاذ مساعد في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة سطيف.

سامية صديقي