العالم يتداعى يا روكي

16 مارس 2020
غولشيفته فراهاني: وهم راحة في زمن القلاقل (Getty)
+ الخط -
"هذه اللوحة تتداعى يا بولي"، يقولُ الملاكمُ، المتعب والمُثقل بأوجاعٍ وتمزّقات وخيبات، لشقيقِ زوجته. فيُجيبه بولي، الغارق في اكتئابه: "العالم حولنا يتداعى يا روكي".

ماذا يكتب الناقد السينمائي في زمن "كورونا (كوفيد 19)"؟
العالم يتخبّط. الانهيارات حاضرة في قطاعات عديدة، وإنْ كانت بطيئة في بعضها. الوباء ينتشر. محاولات احتوائه قليلة، بينما العلاج الجذري والنهائي غير مُكتشَفٍ، أو غير فعّال، أو غير ناضج، أقلّه إلى الآن. تصريحات مسؤولين دوليين تُثير مزيداً من الرعب والقلق. تقارير طبية تنقلها صحفٌ رصينة تعكس وقائع، فيزداد الرعب والقلق. الفرق شاسعٌ في التعامل مع الوباء بين بلدٍ وآخر. دول قليلةٌ تُسخِّر كلّ شيء لديها لحماية الناس وتحصينهم، بانتظار تحقيق انتصار أخير عليه، يتمثّل بمعجزة العلم والطب. دولٌ أخرى تجهد في احتواء الوباء، وتحرّض شعوبها على المساعدة في عملية الاحتواء تلك. دولٌ، هي الأكثر عدداً، تتخبّط كتخبّط العالم.

الخرافات في ثقافات شعوب جاهزةٌ في أزمنةٍ كهذه. الموروثات الشعبية أيضاً. كثيرون ينقادون إليها بسرعة، فيبتعدون عن العلم والوعي والمعرفة، كمن ينبذ كلّ علمٍ ووعي ومعرفة. نادرون أولئك الذين يملكون عقلاً وصوتاً معرفياً في بلدان ترضخ شعوبها لخرافات وماورائيات، لكن العقل غير قادر على الإقناع، والصوت غير متمكّن من بلوغ مسامع وانفعالات. النزاعات الحاصلة في أجهزة وطوائف وأحزاب، في دولٍ عديدة، أقوى من منطقٍ وعلمٍ يحتاج إليهما أناس تلك الدول. الصراعات الإقليمية أطغى على الأجهزة والطوائف والأحزاب من أيّ شيء آخر. استغلال الهلع الشعبي أداة صدامية لتثبيت موقع، أو لانتزاع تعاطفٍ، أو لغلبةٍ على خصم/ عدو.

في الغرب، يحضر بعض هذا، لكن الاجتماع والناس والمؤسّسات، أو بعض هذا على الأقلّ، أقدر على إعمال العقل. نظرية المؤامرة تعثر على حيّز لها هناك وهنا، لكنّها تتعرّض، في أمكنةٍ مختلفة، لتفنيدٍ وتحجيمٍ وتغييبٍ، أو لتأجيلٍ، فالهمّ الأول احتواء الوباء للقضاء عليه، علمياً وطبياً. الصين، منبع الوباء، متفوّقة في انتصار شبه كامل عليه، قبل اتّهامها الجيش الأميركي بنشر الوباء فيها (!). كوريا الجنوبية واليابان متفوّقتان أيضاً، وإنْ بشكلٍ ناقصٍ. هذه أمثلة يُقتدى بها في الحرب ضد الوباء.

لكنْ، ماذا يكتب الناقد السينمائي في زمن "كورونا (كوفيد 19)"؟
صالات سينمائية تُغلِق أبوابها. مشاريع تتعطّل، والتأجيل ضروري، لكنْ لا إجابة عن سؤال: إلى متى؟ تصوير أفلامٍ يتوقّف. مهرجانات تُلغَى دوراتها الجديدة. نجومٌ يُصابون بالوباء (توم هانكس). أيّ نقاشٍ ينفع؟ أيّ سجال أو خصام أو تحدّ قابل للاستمرار؟ أيّ قولٍ أو نصٍ يتلاءم وحالة كهذه؟ أتكفي استعادة إنتاجات سينمائية عديدة تتناول حالاتٍ كهذه؟ أيُفيد القول بأنّ السينما "سبّاقة" في كشف وقائع وحقائق، أو احتمالاتٍ شبه مؤكّدة لأحداثٍ قابلة لأنْ تُصبح وقائع وحقائق يشهدها العالم اليوم؟ أيّ فيلمٍ، قديم أو جديد، يُحرِّض على كتابة وتحليل وتفكيك، بعد أنْ يُثير رغبة المُشاهدة في الناقد، إنْ يتمكّن من ذلك الآن؟ أي صُوَر، تبوح وتلتقط نبضاً وترسم معالم، يُمكنها إثارة شغف الكتابة، إنْ تتمكّن من ذلك الآن؟ أيرتاح الناقد في الركون إلى "سينماه"، في لحظة التداعي الكبير الذي يعيشه العالم؟ أيكون سينمائيون، يرنو إليهم سابقاً فيرتاح إلى اشتغالاتهم، ملاذاً افتراضياً أو حصانةً معنوية، في مواجهة موتٍ محتَمل في كلّ لحظة؟ أينجو الناقد من ورطة الخراب بذهابه إلى شاشةٍ، يُفترض بها أنْ تنقله إلى العالم، بينما العالم يأتي إليه مُحمّلاً بأخبارٍ مُرعبة، ومخاوف غير متناهية، ومشاعر محطّمة؟

يُنفِّذ الناقد إجراءات الوقاية قدر المستطاع، لعلّه بها يحمي نفسه من إصابةٍ محتَمَلة. ينزوي في منزله، مُحاطاً بكتبٍ وأشرطة فيديو، لكنّه يخشى الاقتراب منها، فلعلّ فيها ما يُعيده إلى واقعٍ آنيّ، يحاول التملّص منه بشوقٍ إلى خلاصٍ منتَظَر. يتأمّل ما لديه من أشرطةٍ، لكنّه يتراجع قليلاً، فيختبئ في كرسيّه، وينظر إلى شاشة التلفزيون، محاولاً فهم الحدث، أو متابعاً فصوله. ينفضّ عن محطّات عربية مرتبكة في مهنتها إزاء حالة كهذه، لكنّه يريد تسليةً، فيختار الأسهل والأبسط والعابر، تمضية لوقتٍ يمرّ بطيئاً وثقيلاً.

كتبٌ سينمائية عديدة متوافرة. لكنْ، أتُعِينه قراءة نصوصٍ لميشال سيمان، كبير النقّاد السينمائيين الفرنسيين، مجموعة في "حياة سينما" (2019، "غاليمار")، على مواجهة الخارج؟ أم يذهب إلى جان ـ بول بلموندو، فيتصفّح "مئة حياة أفضل من واحدة" (2018، "كتاب الجيب")، بينما الموت يتنزّه في أروقة مدينة الناقد وأزقّة الدنيا، ويكاد المرء يفقد حياة واحدة لا يملك غيرها؟ أيغرق في رسائل محمد خان إلى صديقه سعيد الشيمي (3 أجزاء، 2019، "الكرمة")، أم يختار مقالاتٍ قديمة، يُعيد كاتبها خميّس الخياطي نشرها في "أفلام" (2019، "دار سحر للنشر")، فينصرف إلى معنى الكتابة والمُشاهدة في زمنٍ قديم، مليء بغليانٍ متنوّع، أجمل وأهمّ وأعمق من غليان الراهن؟ أيُتابع، بحسرة وقهر، خراب "دفاتر السينما"، بعد استيلاء منتجين ومستثمرين عليها، فتأتيه مقالة The End لرئيس تحريرها ستيفان دولورم (افتتاحية مارس/ آذار 2020) نذير شؤم يتماهى بخراب العالم؟ أيهربُ من صورة الحُطام أمام مدخل "سينما متروبوليس (بيروت)" المغلقة، التي تُشعره بقشعريرة تُخبره أنّ الخراب متكامل، وأنّ النفاد منه شبه مستحيل؟

وإنْ يشأ الناقدُ أفلاماً، فالوفرة كثيرة، لكنّ المزاج مضطرب. آخر الأفلام الطيّبة له، الإنجاز الجديد لإيليا سليمان "إنْ شئتَ كما في السماء" (2019). لكن القسوة والصدمة والصراع الذاتيّ أقوى من أن تحجبها الفكاهة المريرة والسخرية الفاقعة فيه. مُشاهدات "البرليناله 2020" محفورةٌ في الناقد، لكن الكتابة عن بعضها مُترافق ودورتها الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020)، وبعدها بقليل. تتراءى له غولشيفته فراهاني، فيرتاح قليلاً وهو يستعيد حضورها الأخير، رغم بهتان "أريكة في تونس" (2019) لمنال العبيدي. أتكون فراهاني راحة له في عزلة المكان الضيّق؟ يذهب إلى هارفي وينستين ورومان بولانسكي وصانع "لغز جريمة قتل في مانهاتن" (وودي آلن) ليقول رأياً، لكنّ الوباء يخنق الناس والآراء، إنْ كان اسم الوباء "كورونا"، أو الاضطهاد؟

هذا غير كافٍ. الوباء يُحاصِر كثيرين، والحماقة اللبنانية، معطوفة على تكابر وخرافات وماورائيات ونزاعات سياسية وطائفية واقتصادية، تُزيد من انتشاره. من يكشف فضيحة لبنانية في زمن "كورونا" يُطلَب إلى التحقيق ويُهَان، ومن يصنع الفضيحة يمارس طغيانه على الناس والبلد والاجتماع. لذا، أيحتاج المرء الآن إلى كتابةٍ عن أفلامٍ وسينما ومسائل مُثقلة بهمّ المعنى، فيسأل: لماذا الكتابة في زمن الموت؟ أتكون الكتابة فعل حياة؟ هذا وهمٌ، وإنْ كانت أوهامٌ كثيرةٌ جميلةً، أحياناً. والمهنة؟ المهنة تتطلّب كتابة، وهذا بعض عزاء. أفلامٌ عديدة في "البرليناله" نفسها مُقيمة في الناقد إلى الآن. صُوَرها وكَشْفُها وتحريضها وجمالياتها فاعلة فيه، رغم أنّ بعضاً قليلاً منها مليء بألمٍ وغضب وتمزّقات، هي نفسها آلام أناسٍ كثيرين، وغضبهم وتمزّقاتهم، هناك وهنا. أفلام عربية تحثّ على إعادة المُشاهدة، لعلّ الإعادة تؤدّي إلى كتابةٍ، وإنْ في زمن الموت وأشباحه.
"العالم يتداعى حولنا يا روكي".

المساهمون