الطنجرة اليمنية تغلي
"في الحرب، تصبح الحقيقة ثمينة إلى درجة أنها تحاط بحراسة مشددة من الكذب". هكذا قال تشرتشل، وقد خاض الحرب، وعرف أسرارها. قال هنري لويس "الحرب تخلف للبلاد ثلاثة جيوش؛ القتلى والمعاقون واللصوص". كان جورج بوش الأسوأ في الكذب في أثناء الحرب، عندما جهز جيشه لغزو العراق من دون حق، قال: "كل الاستعدادات التي ترونها للحرب على صدام حسين ما هي إلا جهود لتحقيق السلام". ضحك الجميع، لكن العراقيين بكوا، ومازالوا يبكون.
لا تخرج الحرب الجديدة بين إيران والعرب في سماء اليمن عن قاعدة (الحقيقة أول ما يسقط من الضحايا في الحرب)، والحقيقة التي سقطت، حتى قبل تحليق الطائرات العربية في الأجواء اليمنية، التقاء موضوعي للمصالح بين الثورة المضادة التي قادتها دول في الخليج ضد الربيع العربي (وشبابه) والطموحات التوسعية الإيرانية في البطن العربي الرخو. هذه الخلفية الحقيقية للمشهد في اليمن. كيف ذلك؟
ما نراه اليوم في اليمن من تفككٍ للدولة، وانزلاق نحو الحرب الأهلية، وسيطرة الفصيل الحوثي التابع لإيران، بدعم من الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، نتيجة طبيعية لمؤامراتٍ حيكت حول الثورة اليمنية وحراك شبابها. الحرب، الآن، ولدت من خوفٍ خليجي من التحول الديمقراطي في اليمن. والحوثي ما كان يستطيع أن يسيطر على مفاصل الدولة، لولا أنه وجد أمامه فراغاً سياسياً مهولاً، وما كان صالح سيجرؤ على تقويض أسس العملية السياسية، لو لم ير خوف السعودية من "الإخوان المسلمين" وحزب الإصلاح، واستعداد الرياض لقبول أي شيء، إلا عملية سياسية مفتوحة على أفق ديمقراطي، فيه تداول على السلطة، وبذور بناء دولةٍ حديثةٍ في بلادٍ، للقبيلة والعشيرة اليد الطولى فيها.
لو وقفت دول الخليج على الحياد إزاء الحراك الشبابي في اليمن، واقتنعت بأن العملية السياسية التي انطلقت بعد ترنح نظام صالح، هي الوصفة الوحيدة للحفاظ على ما تبقى من معالم الدولة هناك، لو قرأت القيادات الخليجية الصورة جيداً، لما اضطرت إلى خوض حربٍ كبيرةٍ ومكلفةٍ وخطيرةٍ في اليمن، من أجل فك سيطرة الحوثي على الدولة، وتوقيف التمدد والهيمنة الإيرانية هناك. الحرب، كما قال الاستراتيجي الألماني، مترنيخ، هي استمرار للدبلوماسية بطريقة أخرى، وهذا معناه أن الحرب تخدم رؤية سياسية واستراتيجية، وليست نيراناً وصواريخ وانفجارات وقتلى ودماراً.
الحرب، وهي آخر ما يلجأ إليه السياسي عندما يقف عاجزاً عن الدفاع عن مصالحه. لكن، وهو يركب قطار الحرب يضع لها سقفاً وحدوداً وشروطاً، حتى يفتح أمام خصمه إمكانية التراجع والتفاوض والحلول الوسطى، انتصر أو انهزم. مرت أسابيع على بداية عاصفة الحزم على معاقل الحوثي وصالح من الجو. هل غرض الغارات الجوية إجبار "أنصار الله" على الجلوس إلى المفاوضات من جديد مع خصومهم؟ كيف ومتى، وماذا فوق الطاولة؟ أم الغرض نزع أسلحة الحوثيين، وبقايا الجيش الذي يقاتل معهم، وهل هذا ممكن في بلادٍ، قطع السلاح فيها أكثر من عدد السكان؟ هل الهدف تشجيع القبائل على التمرد على "أنصار الله"، وتحريك السلاح الموجود لديها؟ إذن، هي الحرب الأهلية التي لن يتحكم فيها أحد، بعد أن تخرج من معاقلها؟ وماذا لو انزلقت الأمور نحو حربٍ أهلية وطائفية، موجودة كل توابلها، الآن، في الطنجرة اليمنية الحارقة. هل تفكيك اليمن هو الحل؟
الحل إعادة النظر في الموقف الخليجي، والسعودي تحديداً، من الربيع العربي، وإعادة تقييم قراراتٍ اتخذت إزاء تمويل الثورات المضادة، والرهان على عودة العسكر إلى الحكم، خوفاً من "الإخوان المسلمين" وطموحاتهم. كانت لذلك الخيار نتائج كارثية، أهمها توريط المملكة في حرب معقدة على حدودها. الحل هو التفاوض مع إيران، كما فعلت أميركا، والضغط عليها سياسياً، لإقناعها بأن مصالحها مع الدول القائمة، لا مع الجماعات الدينية التابعة، أو القريبة منها.