الطبرمك والملك المغفَّل (1)

22 مايو 2019
+ الخط -
تغيب الفنان عادل إمام عن السباق الرمضاني، وتكاثرت الأقوال حول بواعث غيابه، لكننا لن نناقش هذه المسألة الشائكة، ونكتفي بالإشارة لمسلسل (العراف 2013)، وقد أدى فيه الزعيم شخصية النصاب الحلنجي، وترك العمل بصمة في تاريخ الشاشة الصغيرة.

قبلها بثلاثة أعوام، كان أحمد السقا وخالد صالح قد وضعا بصماتهما على (ابن القنصل)، ولسان حالهما يردد مع الساحر محمود عبد العزيز "يا عزيزي! كلنا لصوص"، وألممنا بطرف من حيل النصابين وذكائهم الحاد، وتوظيفهم لمهارات مدهشة في أعمال تكسبهم الجاه والثراء، وتورث الناس من حولهم أمراضًا لا حصر لها.

فإذا انتقلنا إلى السينما العالمية، وهنا أجدني أذرف الدمع الثخين للإجهاز على "إيجي بست"، وتفويت الفرصة على معدومي الدخل وحرمانهم من متابعة الأفلام العالمية، ولربما نعود لهذا لاحقًا، لكن من منا لا يذكر فيلم "ذئب وول ستريت" وبطله الحقيقي غوردان بلفورت، المحتال الذي نصب عليه المصريون -وفق زعمه مساء 9 ديسمبر/ كانون الأول 2017- ومن ينسى الأداء الأسطوري لروبرت دي نيرو في "ساحر الأكاذيب"، وجسد شخصية بيرني مادوف صاحب أشهر عملية نصب مالي في التاريخ، وهو أنجح من تلاعب بخدعة بونزي!


ومن أفلام المحتالين، فيلم "امسكني إن استطعت" ليوناردو دي كابريو وتوم هانكس وكريستوفر واكن، والبطل الحقيقي للفيلم "فرانك ويليامز أباغنيل" النصاب الذي احتال على أربعة رؤساء أفارقة؛ رؤساء ليبيريا، مالاوي، زامبيا، والغابون! وأوهمهم أنه مبعوث من البنك الدولي ويعلم بسرقاتهم وحساباتهم السرية في سويسرا؛ فجمعوا له مليوني دولار رشوةً ليكفي على الخبر ماجور!

قبل كل هؤلاء، ظهر فكتور لوستيج الذي باع برج إيفل مرتين، ويذكرنا بإسماعيل ياسين الذي اشترى العتبة الخضراء! لكن لوستيج تحديدًا تربطنا به علاقة من نوعٍ خاص، ومعه سنقفز قفزة تاريخية للوراء، ونلتقي بزعيم عربي قد أكل الطبرمك! وإن شئت الدقة فلنقل: أكل مقلب الطبرمك، أو على طريقة هالة فاخر "كلت الحلاوة يا زكي!".

لم يكن الضحية رئيسًا أفريقيًا، بل الملك العادل محمود نور الدين زنكي، وهو أستاذ صلاح الدين الأيوبي، وقد عاش في القرن الثاني عشر الميلادي (1118 – 1174)، ولم يسلم الملك من خدعة نصاب تجرأ عليه. اهتدى لوستيج لحيلة جهنمية في عصره، وادعى أنه صنع ماكينة لإنتاج ورقة فئة 100 دولار، وأنها تنتج ورقة كل ست ساعات، ثم باع الماكينة لقاء 30 ألف دولار، واتضح للضحايا أن الماكينة تنتج 200 دولار فقط والباقي ورق أبيض، أي خسروا 29800 دولار في غمضة عين!

وبنفس الطريقة، اهتدى بعضهم إلى طريقة ضحك بها على ذقن نور الدين زنكي، والنصب مدارس وطرائق شتى، وكلما كانت طريقة النصب مبتكرة كانت الغنائم أكبر. أقدم بعض الأعاجم إلى دمشق، وبحوزته ألف دينار من الذهب الخالص؛ فطحنها وبرَّدها ونعَّمها فكانت أنعم من الحرير، ثم أضاف إليها بعض العقاقير وعجنها بغراء السمك، وقطَّعها حبوبًا في شكل الحمص وجففها.

مرت المرحلة الأولى من مخطط النصاب بسلام، واندفع نحو الخطوة التالية؛ فارتدى مسوح القديسين ووضع الحبوب في مخلاة، وأتى بعض العطارين وأقنعه بشراء الحبوب، وقد خلع عليها اسم "الطبرمك"، وتساهل في ثمنها حتى باعها بخمسة دراهم! تصور أن يبيع أحدهم ألف دينارٍ بخمسة دراهم، لكن إذا عُرِفَ السبب بَطُلَ العجب؛ أليس كذلك؟

وانتقل النصاب إلى المرحلة الثالثة في مخططه المحكم، ومعها خلع رداء التنسك والتصوف والقداسة، ولبس ملابس رجالات الأعمال وكبار رجالات الدولة، واختار لنفسه منزلًا يستهوي الأنظار، أقام الحفلات الصاخبة وليالي أضواء المدينة، ودعا إلى مجلسه كل من له ثِقل سياسي واجتماعي، ثم باح لبعضهم بسر نجاحه وثرائه العريض، ونسب ذلك كله إلى علم الكيمياء، وأن بمقدوره أن يحوِّل التراب ذهبًا، لكنه أخذ على نفسه عهدًا ألا يفعل ذلك إلا لملك، وعلى شرط أن يسخِّر الملك هذا المال لخدمة المسلمين.

طار الخبر للوزير، وانتقل إلى الملك، وكانت الخزانة العامة للدولة تعاني عجزًا في الميزانية، وتبحث عن سلفة أو قرض حسن أو دين يُسدد بعد كسر شوكة الصليبيين؛ فعدَّها الملك سانحةً يجب اغتنامها، وحرص ألا يضيع على المسلمين هذا الخير المرتقب. أرسل الملك في طلب الرجل، واشترط الرجل ألا يضع يده في شيء، وأن يترك للملك بنفسه أداء المهمة؛ ليتأكد بنفسه أن الأمر لا دجل فيه، وكتب قائمة بالمواد الخام التي يحتاجها.

أحضرت الحاشية كل المواد إلا الطبرمك، ولكن الرجل أصر على إحضار الطبرمك؛ فهو المادة الفعالة ومن دونها لن تحدث المعجزة، ثم اقترح أن يدور على العطارين ويأتي بها، وقد كان ووجدها عند العطار، وحُمِلت إلى القصر وأملى الرجل على الملك الخطوات، وإذا بالملك يُمسك بسبيكة من الذهب الخالص!

وقال الملك: يجب أن نُحضر أكبر كمية ممكنة من الطبرمك؛ فقفز الرجل يرشدهم إلى مكان الطبرمك في خراسان، وحدد لهم مغارة بعينها، وأضاف أنه يحتفظ في بيته بقنطار من الطبرمك؛ فكلَّفه الملك بالمهمة وبعد تمنُّعٍ وافق، وحمل معه من المال آلاف الدنانير لشراء الطبرمك، وكتب إليه الملك كتبًا إلى الولاة؛ ليسهِّلوا مأموريته.

حينها، كان بعض الكتَّاب يضع كتابًا يذكر فيه أسماء المغفلين؛ فوضع اسم السلطان على رأس القائمة، وبلغ ذلك السلطان فاستدعاه واستجوبه؛ فقال المؤلف: إذا أحضر الطبرمك، محوت اسمك من الكتاب! واتفقا على ذلك، ولم يأتِ النصاب بالطبرمك، ولم يُحذف اسم السلطان من كتاب المغفلين!