لم يكن رحيل الروائي الطاهر وطار (آب/ أغسطس 1936 ـ آب/ أغسطس 2010) إلا فاصلاً بين زمنين في المشهد الثقافي الجزائري؛ زمن الجدل الفكري، والنشاط الثقافي المتنوع، والمكابدة من أجل إثبات الذات، وقد قادته وجوه مخضرمة شهدت ما قبل ثورة التحرير وما بعدها؛ وزمن الارتجال والاستسهال في الإنتاج والتلقي، ويقوده شباب مواقع التواصل الاجتماعي.
ينتمي وطار إلى فئة من المثقفين العصاميين الذين اعتمدوا على أنفسهم لتكوين وإثبات الذات، في بيئة استعمارية لم تكن تسمح لأبناء الأهالي إلا بقسط من التعليم الديني البسيط. وكان باشر الكتابة الأدبية أثناء الثورة، في الخمسينيات، ثم كان أول مثقف يبادر بتأسيس جريدة حرة بعيد الاستقلال في مدينة قسنطينة ("الأحرار")، قبل أن يجري إيقافها بقرار رسمي، وهو ما سيحصل ثانية مع جريدة "الشعب الثقافي" التي حاول أن يجعل منها منبراً للفكر اليساري في الجزائر.
أعلن مبكراً انتماءه إلى الأقلام المشاغبة، وتجسّد ذلك في باكورته الروائية، "اللاز" (1974)، التي كانت أول عمل روائي ينتقد الثورة الجزائرية من الداخل، ويفتح ملفاً مسكوتاً عنه في أدبياتها، هو اغتيال المثقفين، لاسيما اليساريين منهم. وفي العام نفسه، أصدر روايته الثانية، "الزلزال"، التي حاكم فيها النزعة الإقطاعية، منتصراً لخيار تأميم الأراضي الذي أقرّه الرئيس هواري بومدين.
رغم ذلك، ورغم وجوده في قلب الحزب الحاكم ("جبهة التحرير الوطني") بصفته مراقباً وطنياً، يصول ويجول في المحافظات، ويقدم تقارير للجهات الرسمية عن مدى انضباط المناضلين؛ إلا أنه أحيل على التقاعد المبكّر في سن السابعة والأربعين.
صدمه هذا القرار، لكنه سرعان ما استوعب ذلك ليستغلّ التقاعد كفرصة للاستقلال عن السلطة. هكذا، أسس جمعية "الجاحظية"، بعد الانفتاح الديمقراطي عام 1989، وقد شارك في عضويتها معظم المثقفين الفاعلين بالعربية والفرنسية، وكانت المنبر الوحيد تقريباً للنشر وإبداء الرأي زمن العنف المسلّح في التسعينيات. غير أنه يعاب على "عمي الطاهر"، كما يناديه الجميع، طبعه الحاد والمائل إلى الاستحواذ، وهو ما أفرغ الجمعية من محتواها مع انسحاب معظم مؤسسيها.
كان اغتيال الروائي الطاهر جاوت، عام 1993، الذي لم يكتب إلا بالفرنسية، بداية للقطيعة النهائية بين وطار وبين النخبة "المفرنسة"، لأنه صرّح بأن موت الرجل خسارة لفرنسا وليس للجزائر. هكذا، اتُهم صاحب "تجربة في العشق" بمحاباة الجماعات المسلحة، ربما تلافياً للاصطدام معها وخوفاً من اغتيال محتمل قد يطاله. والذين وجهوا إليه هذه الاتهامات، أشاروا إلى التحوّل الفكري العميق الذي عرفته رواياته التي كتبها في تلك الفترة، بدءاً برواية "الشمعة والدهاليز" (1995)، التي ضمّت تعاطفاً صريحاً مع الإسلام السياسي.
ولم تكن معارك الطاهر وطار مقتصرة على الكتّاب باللغة الفرنسية فقط، بل شملت بعض مَن كتبوا بالعربية أيضاً؛ ومنهم الروائي واسيني الأعرج، الذي اتهمه "عمي الطاهر" بسرقة بعض عناوينه؛ وكذلك رشيد بوجدرة، الذي تعوّد معه، منذ ثمانينيات القرن الماضي، على أن يجعلا من الصيف فصلاً للتلاسن والرّسائل المضادة على أعمدة الجرائد.
بعد أربع سنوات على رحيله بعد صراع مع السرطان، صار لازماً الاعتراف بأن الرجل كان محركاً فعلياً للمشهد الثقافي الجزائري، بغض النظر عن أهدافه من المعارك التي كان يثيرها. واللافت للانتباه أن المنابر التي تذكرته بعد رحيله تعدّ على الأصابع، كما فشل مسعى إطلاق اسمه على المكتبة الوطنية، ولم يفلح المبادرون إلى إطلاق الجائزة الروائية التي تحمل اسمه في الحصول على التمويل الكافي، وبات السؤال عن إرث الطاهر وطار محرجاً على أكثر من صعيد.
يتحدث إلينا الروائي حبيب السايح، وهو من الأسماء التي احتكّت بصاحب "الحوّات والقصر"، عن مكانة الرجل، ليس بفضل كتابته المؤسِّسة فحسب، ولكن أيضاً بما كان يثيره حوله من ردود أفعال ومن مواجهات ونقاشات وحتّى "نميمة" أدبية. "لقد كان يشكّل بالنسبة إلى جيلي ظاهرة أدبية وسياسية"، يقول.
ويبدي السايح دهشته من قدرة الطاهر وطار على الجمع بين الكتابة الناقدة للسلطة، والنشاط داخل تلك السلطة نفسها: "إنها الثيمة التي اشتغل عليها طوال مساره القصصي والروائي والمسرحي".
ويفسّر الكاتب والباحث إسماعيل مهنانة هذه المفارقة بكون وطار عنواناً لمرحلة تاريخية حاسمة، مرحلة الدولة الوطنية، بأبطالها وإيديولوجيتها ويعقوبيتها. يقول "إنه ليس مجرّد كاتب سردية الدولة ما بعد الكولونيالية، ولكّنه أيضاً بطلٌ في روايتها، إذ ارتبط اسمه بنشأة الدولة وتأسيسها، وكان منظّراً رسمياً في الحزب/ الدّولة".
"أعتقد أن التأمل في مسار الرجل"، يكمل مهنانة، "مهمّ لفهم تحولات ومننا الجزائري وسياقنا التّاريخي؛ فرواياته كلها توثيق تاريخي ذكي لجزائر الاستقلال، و"اللاّز" واحد من أفضل النصوص السردية في الثقافة العربية المعاصرة".