الطاغية يحبّ الكرسي
تمتلك بعض الكتب قدرة مدهشة على العيش في المستقبل، ربما لأنها مكتوبة له أكثر من أي شيء آخر. ولعلّ هذا ينطبق تماماً على كتاب "السياسة"، أو "السياسات" كما يترجمه الأب أوغيسطنس بربارة البوليسي، والذي نقله من الأصل اليوناني إلى العربية.
وفي الظن أنه من أهم الكتب في علم السياسة، والتي تظل الحاجة، اليوم، ماسّة إليها، لتنير للطبقة السياسية وللحكام في مختلف أنحاء العالم طرق الحكم "الرشيد"، كما يخط ذلك الفيلسوف اليوناني أرسطو، والذي كان كتابه، الجامع المانع، ثمرة دراسة شملت أكثر من 185 دستوراً، مكّنته من أن يعطي كتاب "السياسة" شمولية جعلته، اليوم، واحداً من أهم المراجع التي يتم اعتمادها في مجالات تدبير أمور الدول وطرق بناء الأنظمة، أشملها وأعلاها شأناً النُّظُم الديمقراطية بمختلف مراجعها.
وإلى ذلك، تحتاج الطبقة السياسية العربية مثل هذا الكتاب في إطار عملية "محو أمية" حاسمة، تخرجها من جهل التدبير المستبد بها. ففي الكتاب، مثلاً، يقدم أرسطو تشريحاً دقيقاً لأنواع السلطات، وقد بنى هذا كله انطلاقاً من دراسة معمّقة لأكثر من مئة دستور في ذلك الوقت، وانتهى إلى تلك التمييزات في أنواع السلطات التي ضمّنها في كتابه "السياسات"، أو "السياسة" كما يترجمه آخرون.
وهو كتاب يمكن قراءته على ضوء ما خلّفه الربيع العربي من ارتدادات، ومن نتائج مدمرة على جغرافيات عربية كثيرة، ستكون مفاعيلها، بلا أدنى شك، قاسية.
يوضح أرسطو أنه "عندما لا يشترك كل فريق في السياسة، اشتراكاً يلائم أوهامه وظنونه، يثور على الفريق الآخر"، وكأنه والحالة هاته، يتحدث عن واقع سياسي عربي موبوء ومتعفن، قائم على الانفراد بالسلطات وأشكال الحزب الوحيد، متعدد الأوجه والتسميات.
فحين تنتفي المشاركة السياسية، أو يجري الالتفاف عليها، أو تجميدها إلى حين، تحت دعاوى "المصلحة الوطنية"، يحدث المحظور. قد يتطلّب الأمر زمناً لكي يخرج الناس إلى الشارع، مطالبين باسترداد المشروعية سلمياً وبالقوة، لكن الأمر يحدث في النهاية.
وفي مقطع آخر، يورد أرسطو، بشكل صريح، الخلاصة التالية: "في كل مكان، تقع الثورات بسبب عدم المساواة".
لكن، كيف يولد الاستبداد؟ يجيب أرسطو عن ذلك باستبطان نفسي: "في ما بعد، قد توحي المزايا التي تؤتيها السلطة وإدارة المرافق العامة إلى جميع الرجال بالرغبة في أن يبقوا في الوظيفة أبداً".
وبعد ذلك ماذا يقع؟ النتيجة الحتمية للتمسك بالكرسي والبقاء فيه بأي ثمن، وهو ثورة الشعب، وليس بسبب استرجاع المنافع المادية المسلوبة منه. لكن، وهذا هو الأهم، يثور الناس حين "يرون الذل محدقاً بهم، ويرون الآخرين في كرامة".
هذا ما حدث في الشوارع العربية التي رفعت شعارات استعادة الكرامة من أول وهلة، قبل أي شعار آخر. فقد يكون غياب المشاركة السياسية سبباً، لكن الأشد تسريعاً بقيام الثورات هو "الإهانة والخوف والاحتقار والنمو غير المتناسب لبعض الطبقات والكيد والإهمال"، بتعبير أرسطو.
لذلك، وحتى لا تقوم الثورات، يعمل المستبد، أو الطاغية، على تصفية خصومه، ووأد كل حركة في المهد بـ"القضاء على كل متفوّق يرفع رأسه والتخلّص من الرجال أولي الألباب، ومنع الموائد العامة والاجتماعات، وحظر التعليم، وكل ما يمت بسبب إلى التثور، أعني اتقاء كل ما يؤتى عادة شجاعة وثقة بالنفس، ومنع ضروب الفراغ وجميع الاجتماعات التي قد يجد فيها المرء تسليات مشتركة، وعمل كل ما من شأنه أن يظل الرعايا يجهل بعضهم بعضاً، لأن العلاقات تجلب الثقة المتبادلة".
أليس هذا ما يقع، اليوم، في أكثر من بلد عربي، ترتعد فرائص حكمه من هبّة شوارعه؟