الضمّ الصهيوني للإمارات

18 اغسطس 2020
+ الخط -

أصدرت إمارة أبوظبي، بداية عام 1969 (بعد خمسة أعوام من تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية)، قانون مقاطعة إسرائيل رقم 12، يمنع عقد أي اتفاقٍ مع أي جهة تنتمي إلى "إسرائيل" أو أي تبادلٍ تجاري معها، ويفرض عقوبة تصلُ إلى السجن عشر سنوات وغرامة تصلُ إلى سبعة آلاف دينار. ليؤكّد على ذلك قانون دولة الإمارات العربية المُتحدة رقم 15 لسنة 1972، والذي يردُ في ديباجته أنه جاءَ استجابةً لتوصية جامعة الدول العربية التي توصي الدول الأعضاء باحتواء تشريعاتها على قانونٍ موحّد لمقاطعة إسرائيل، إتمامًا للتدابير العربية الجماعية لمواجهة "الخطر الصهيوني الداهم". ومع ذلك، لم يكن إعلان الإدارة الأميركية عن اتفاق "السلام" الإماراتي - الصهيوني في 13 أغسطس/ آب الحالي مُفاجئًا، كون "إمارات" اليوم لم تعد تلك، ولا عادت "إسرائيل" تُمثّل خطرًا بالنسبة لها.
يُلاحظ المراقب للعلاقات بين دولة الإمارات ودولة الاحتلال الصهيوني تطورًا مُتسارعًا، فبعد المناورات العسكرية التي شاركت فيها قوة من جيش الإمارات إلى جانب قوّات جوية إسرائيلية في سبتمبر/ أيلول 2016 ومارس/ آذار 2017، يُرصد أنّ اللقاء الرسمي الأول بين البلدين هو الذي جمعَ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بوزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد آل نهيان، يوم 21 يوليو/ تموز 2017 في نيويورك، بحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، تطوّرت تلك العلاقات في عدّة مستويات، أهمها الأمني والعسكري، بحيث لم يعد الحديث عن مشاركة طيارين صهاينة في حرب السعودية - الإمارات ضد اليمن سرًا، فقد نشرت هآرتس قبل عام تقريبًا أن قرابة اثنين وسبعين طيّارًا حربيًا إسرائيليًا يعملون لمصلحة السعودية في حربها ضد اليمن. حتّى أنّ المحلل السياسي الصهيوني، إيدي كوهين، صرحَ في أغسطس/ آب 2018 بأنّ طيّارًا إماراتيًا شاركَ ضمن سلاح الجو الإسرائيلي في قصف مواقع عسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزّة. وفي العام نفسه، شارك وفد رياضي إسرائيلي، رفقة وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف، في بطولة رياضية في أبوظبي، عُزفَ خلالها النشيد الوطني الإسرائيلي لأول مرّة، لتتتالى بعدها زيارات عدّة لقادة العدو إلى الإمارات، مثل أيوب قرا، يسرائيل كاتس، يوفال روتيم. وليجاهر السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، في مقالٍ نشره في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، برغبة بلاده بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وقد ذكرت صحيفة إسرائيل هيوم، بعد الإعلان الثلاثي، أن نتنياهو زار الإمارات على الأقل مرتين خلال العامين الماضيين. 
بناءً على ما سبق، ما جرى في الإعلان عن الاتفاق الثلاثي هو تتمّة لسلسلة تطبيع (أو بالأحرى تصهين أو تحالف) طويلة، أو حفل زفافٍ لزواجٍ قديم. وعليهِ: لِمَ أقدمت الإمارات على هذه الخطوة على الرغم من إدانتها فلسطينيًا وعربيًا وإقليميًا (تركيا وإيران) في هذا التوقيت؟ تُبرّر التصريحات الإماراتية، الرسمية وغير الرسمية، الاتفاق التطبيعي بأنّه طوق نجاة الفلسطينيين باعتباره سيوقف مشروع الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، الأمر الذي نفاه نتنياهو، حيث أكّد أنّ الضم مستمر، وما ورد في نص الإعلان الثلاثي هو تعليق مؤقت للمشروع. وتأجيل الضم وقعَ فعلًا لأسبابٍ داخلية؛ أميركية وإسرائيلية، بعيدًا عن اللّمسة الإماراتية، فقد مرَّ شهر ونصف الشهر على الموعد الذي حدده نتنياهو (الأول من يوليو/ تموز 2020)، من دون أن يُنفّذ تعهده بالضم، بالإضافة إلى اجتياح أزمة جائحة كورونا التي أجّلت مسألة الضم من الأساس. 

اللقاء الرسمي الأول جمعَ نتنياهو ووزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، يوم 21 يوليو 2017 في نيويورك

رُبّما يكون الدافع الإماراتي تشكيل تحالف في مواجهة العدو الإيراني، وكذا بالنسبة إلى البحرين والسعودية في خطوتهما المماثلة المُحتملة. ولكن ماذا عن سلطنة عُمان القريبة من إيران وسياساتها؟ هل ستجعل التطبيع تحالفًا ضد إيران؟ وينطبق ذلك على المغرب، والسودان الذي لا يحملُ عداوةً مباشرة لإيران. ليبرز سؤال: هل الخطر الإيراني هو الذي يدفعُ هذه الدول إلى اللجوء إلى إسرائيل لحمايتها؟ أو باختصار: كيف يُفسّر هذا الماراثون العربي نحو التطبيع؟
لعلّ الإمارات، بإقدامها على خطوة التّصهين (لا التطبيع) تطمح إلى إتمام الموازنة المُزدوجة في علاقاتها، مع حليفتيها "إسرائيل" والولايات المُتّحدة من جهة، ومع قوتين إقليميتين مُتنافسين قريبتين منها؛ إيران والعربية السعودية، من جهةٍ أخرى، حيث يتزامنُ توقيت الإعلان مع اقتراب موعد الانتخابات في كلٍ من الولايات المُتّحدة وربما في "إسرائيل"، التي يسعى فيهما كل من ترامب ونتنياهو إلى تحقيق انتصاراتٍ على مُنافسيهم، ففي الولايات المُتّحدة، حثّت مُنظّمة إيباك (لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية)، الدول العربية والفلسطينيين على اتّباع الخطى الإماراتية، وإنهاء مقاطعتها لإسرائيل والولايات المتحدة، والعودة إلى طاولة المفاوضات. أمّا في إسرائيل، فسترتفع أسهُم نتنياهو الذي ما انفكّ عن إعلان نيّته تحقيق قبول "إسرائيل" في العالم العربي، خصوصا بعد اتّهاماتٍ لاحقته بالفساد، والانكماش الذي طاول الاقتصاد "الإسرائيلي" إثر انتشار جائحة كورونا في الأراضي المُحتلة. وتستفيد الولايات المُتّحدة و"إسرائيل" من خِلال إنقاذ خُطّة السلام الأميركية الّتي أجّجت كثيرًا الرفض والانتقاد إقليميًا وعالميًا. وكذلك، فإنّ اختراق "إسرائيل" منطقةً لم يكُن لها فيها موطئ قدم، بالمعنيين الرسمي والشعبي، أمرٌ في غاية الأهمية لمصالحها الاستراتيجية مُستقبلًا. ومن جانبٍ آخر، تُحقّق الإمارات التوازُن بين المساعي الإيرانية والسعودية، وفي علاقاتها معهما، فمن جهة، تُحاول الإمارات احتواء خلافها التكتيكي مع السعودية في اليمن، والحفاظ على التقارُب الذي حقّقته في علاقاتها مع إيران في الآونة الأخيرة، الذي يزيحُ خطر الحوثيين عنها. ويشير ذلك إلى طموح الإمارات إلى لعب دورٍ إقليميٍّ في المنطقة.

رُبّما يكون الدافع الإماراتي تشكيل تحالف في مواجهة العدو الإيراني، وكذا بالنسبة إلى البحرين والسعودية في خطوتهما المماثلة المُحتملة

ولكن هذا التحالف لا يتوقف عند اللحظة الراهنة، بل يؤسّس لمشروع مستقبلي ذي أبعاد استراتيجية، حيث ترى بعض دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، أن لديها وكيان الصهاينة أعداء مشتركين؛ إيران وتركيا والإسلام السياسي. وبما أنها لوّحت، منذ فترة، بتخفيض التزاماتها في الشرق الأوسط، اشترطت الولايات المتحدة على شيوخ وملوك في الخليج، كي تستمر عائلاتهم في الحكم، الاعتراف بالكيان الصهيوني الذي يُمكن اعتباره في العين الغربية قاعدةً مُتقدمة تمتلك أسلحة نووية تخدمُ مصالحها الأمنية والاستراتيجية، وتُمثّل حلمًا لاهوتيًا ذي صلة بالخلاص ومعركة "الهرمجدون" وعودة المسيح. وهذا هو التفسير الأساس للتنافس الخليجي لنيل الرضى الأميركي وابنتها "إسرائيل" الذي جعلَ هذه الدول تتخلّى عن فلسطين وقضيتها، فقد ثبتَ تاريخيًا، وفق مذكرات الصهيوني إلياهو ساسون، أنّ الزعامات العربية لطالما ساومت بحقوق الشعب الفلسطيني من أجل كراسي الحكم. مع الإشارة إلى ما يقابلها على الجهة الأخرى، من أنظمةٍ استبداديةٍ تستخدمُ القضايا العادلة لتبرير استبدادها، ومن ضمنها القضية الفلسطينية التي أضرّتها بذلك، وجعلت الفلسطيني سبب الخراب لدى شعوبها، وباعت الفلسطيني وهمًا بالمقابل. ويُمكن الاستشراف، في ضوء هذا التحالف، أننا ذاهبون باتجاه حلفٍ عسكري استراتيجي بين مجموعة دول عربية، مع كيان الصهاينة.

ترى بعض دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، أن لديها وكيان الصهاينة أعداء مشتركين؛ إيران وتركيا والإسلام السياسي

كيف تقوم الإمارات بتحالف ينطوي على تَصهينٍ، وتزعُم، في الآن نفسه، أنّه يصب في مصلحة الفلسطينيين ومن دون استشارتهم حتى؟ وعن أيّ تطبيع يجري الحديث؟ واتفاق سلام لأي حرب؟ ليس ثمّة حرب قائمة بين "الإمارات" و"إسرائيل" في الأصل لتجعلها تتوسّل السلام، ولا تتشارك معها أيّ حدود تجعلها عُرضةً لخطرٍ آت من جهتها، ولا هي تُعاني من وضعٍ اقتصادي سيئ (وهذا ليس مبرّرًا) لينقلها هذا الاتفاق إلى انفراجة. وهذا لا يعني التقليل مما يعودُ على الإمارات من هذا الاتفاق؛ اتفاقيات تعاون في مجالات السياحة والتعليم والصحّة والتجارة والأمن، إنما يُثير سؤال: هل ستجوع الإمارات إن لم تتصهين؟ أخلاقيًا وقيميًا لا محالة، أما اقتصاديًا فهي تشهدُ ازدهارًا كبيرًا يجعلها ضمن المراتب الأولى وفق المؤشّرات الاقتصادية العالمية.
إن الذي يصفُ الكفاح الفلسطيني المُسلّح بالإرهاب، وتظهرُ أصواتٌ من بين صفوفه تتهمُ الفلسطيني ببيعِ أرضه، ويُصافح عدوّه، لا يُمكنه ادعاء نصرة الفلسطيني ولا إغاثته حتّى، وفي ذلك يُحسب للسلطة الوطنية الفلسطينية، على الرغم من كل أخطائها الوطنية، رفضها استلام مساعدات إماراتية، في مايو/ أيار الماضي، للمساعدة في مواجهة جائحة كورونا، كونها وصلت بتنسيقٍ إسرائيلي عبر مطار بن غوريون. لا ينطوي التّصهين الإماراتي على أيّ عائد إيجابي للقضية الفلسطينية، وهو ليس تطبيعًا بمعنى جعل العلاقات طبيعية بعد فترة من التوتّر، كون ما يحدثُ خيانة، ليس للوطنية والعروبة فقط، بل لمبادئ الإنسانية والعدالة، وتعريفه الأدق هو تصهيُن.
يستدعي ما يحدث في العقدِ الأخير تأكيد أنّ المشروع الصهيوني والاستبداد رافدان لمستنقعٍ واحد يحاول سحب الأمّة العربية في مجراه، فمن يقفُ ضد ثورات شعبه وحريتهم لا يُمكنه تحرير شعب آخر. لن تتحرّر فلسطين قبل أن تتحرر إرادة العرب، وإرادة العربِ لن تتحرّر قبل أن تتحرّر فلسطين، لأن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار في ظل أنظمة ديمقراطية تحرّرية؛ هنا تفقد إسرائيل معنى وجودها، من النواحي الأمنية والاستراتيجية، بل والقيمية والأخلاقية، الأمر الذي أكّده نتنياهو ذاته عام 2017 بقوله: "أكبر عقبةٍ أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي". حين يتحرّر العربي من استبداده، وحين تتجرّدُ إسرائيل من صهيونيتها بما تعنيه من معانٍ مناقضةٍ للإنسانية، حينها يُمكننا الحديث عن صناعة سلام.

49721F95-8579-4DCE-9938-9DCF3C3F2D54
49721F95-8579-4DCE-9938-9DCF3C3F2D54
مجد أبو عامر

باحث وشاعر فلسطيني

مجد أبو عامر