الصين وكورونا: استغلال إخفاق أوروبا لتسريع اختراق القارة

22 مارس 2020
وصلت الوفود الصينية الطبية سريعاً إلى إيطاليا(إيمانويلي كريماشي/Getty)
+ الخط -

في القرن التاسع عشر ذهبت القوى الأوروبية لتدكّ بالقوة العسكرية الانغلاق الصيني وفتح موانئ الإمبراطورية أمامها، غير أنه في السنوات الأخيرة انعكست الأمور. الصينيون يسعون للهيمنة على الموانئ الأوروبية، بالأموال والاستثمارات والقوة الناعمة. اليوم وأكثر من أي وقت مضى تجد الصين الطريق معبّداً أمامها بفعل فيروس كورونا، الذي تحوّل إلى وباء عالمي، مشكّلاً حصان طروادة جديدا لتقديم "وجه الصين الإنساني"، والذي لم يرق من سنين لكثير من الأوروبيين المتوجسين، فضلاً عن تسريع مخططات قديمة باختراق أكبر عدد ممكن من دول القارة، في استغلال صيني لضعف العمل الأوروبي المشترك في مواجهة الوباء والانكفاء الأميركي. وبدا لافتاً قبل أيام صبّ الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، غضبه على أوروبا، وتحديداً ساسة بروكسل في دول الاتحاد الأوروبي، مخاطباً الرئيس الصيني شي جينبينغ بصيغة "أخي وصديقي"، بسبب شعوره بأنه تمّ ترك بلاده وحيدة، من دون قيام النادي الأوروبي بعمل شيء لمواجهة انتشار فيروس كورونا. وقبله كان، ولا يزال، الإيطاليون يعبّرون عن مرارة تركهم لمصيرهم المأساوي مع فيروس يفترس بشرهم وقطاعهم الصحي والاقتصادي. وتقدم وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، بعد شكوى من الأوروبيين، شخصياً بالشكر للصين "التي تقف مجدداً على قدميها فشكراً على المساعدة". هذا إلى جانب تزايد نسبة المتشككين الإيطاليين بجدوى بقاء بلادهم في الاتحاد الأوروبي إلى نسبة تصل لنحو 66 في المائة، وفقاً لما نقلت الصحف المحلية عن بعض الاستطلاعات، وهو ما يُعدّ تقدماً واضحاً لليمين الشعبوي بزعامة زعيم حزب "رابطة الشمال" ماتيو سالفيني بنحو 20 نقطة منذ فبراير/شباط الماضي.

في الحالتين الصربية والإيطالية كانت الصين أسرع من أوروبا، والأهم أسرع من الولايات المتحدة في استغلال الوضع، خصوصاً أن الماكينة الإعلامية التابعة للحزب الشيوعي الصيني، وبإصرار لافت، باشرت بتسويق قيادة جينبينغ "العالمية"، مع انتشار صور تُظهر صناديق مغلّفة بخلفية حمراء عليها شعار المطرقة والمنجل، الشعار نفسه الموجود على صدور ممرضي وأطباء الصين الذي يتوافدون إلى إيطاليا لمساعدتها في مكافحة الوباء. وبعد إيطاليا، كشفت مصادر خاصة لـ"العربي الجديد" من مدريد، أن "إسبانيا هي التالية في هذا المسار الذي اختارته الصين للنفاذ إلى أوروبا بوجه إنساني من دون إثارة الكثير من الجلبة والأسئلة". ففي وقت الكوارث والأزمات يصعب على الديمقراطيات تبرير رفض ما يبدو أنها "مساعدة"، خصوصاً أن للمواطنين الحقّ بمحاسبة المسؤولين على التقصير، وصناديق الاقتراع واحدة من هذه الأدوات. وإزاء هذا الوضع، لم تمرّ ساعات على تقريع الاتحاد من فوتشيتش حتى خرجت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، لتثني بنفسها على المساعدات الصينية التي يجري "توضيبها"، ومن بينها مليونا كمامة طبية للمستشفيات و50 ألف حزمة اختبار و200 ألف قناع وقاية. مع العلم أن فون ديرلاين ذكّرت بعد محادثات عبر الفيديو مع رئيس الوزراء الصيني، لي كي تشيانغ، بأنه علينا ألا ننسى "أن الاتحاد الأوروبي قدم مساعدات لبكين عبارة عن 50 طناً من الأدوات الطبية مع اندلاع أزمة فيروس كورونا"، وهذا بالنسبة للصينيين غير هام في مسعى استراتيجي مستمر منذ سنوات لانتهاج سياسة ناعمة ووسائل دبلوماسية وإغراءات اقتصادية، وبقدرات مالية تفوق قدرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المعتمد أكثر على استعراض العضلات وسياسة الاغتيالات "الهاكر" و"التلاعب ببث أخبار كاذبة"، لزرع شقاق أوروبي، منذ أن هضم الرجل شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014.

تاريخ تغلغل صيني
تؤدي الصين منذ سنوات، وإن بدا أن العامين الأخيرين هما الأكثر اندفاعاً، لعبة قريبة من ألاعيب الكرملين التي كشفت الصحافة الغربية عنها في محاولة تقسيم دول الاتحاد الأوروبي لمواجهته منقسماً وغير موحّد. في السياق اعتبر مراقبون غربيون، ومن بينهم مركز "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" للأبحاث، في تقرير له صادر في عام 2017، أن الاستثمارات الصينية بالنسبة لبكين هي واحدة من أدواتها في اختراق قلاع الأوروبيين، تحديداً في محاولة ترجمة تلك الاستثمارات في السياسة. فقد أخذ التغلغل الصيني يستميل مواقف سياسيين وبرلمانيين، بل ورؤساء دول في وقتٍ مبكر، فعلى سبيل المثال كانت جمهورية التشيك بقيادة رئيسها الراحل فاكلاف هافل، من أكثر الدول الأوروبية انتقاداً للسجل الحقوقي الصيني، غير أنه قبل أعوام قليلة تغيّر الموقف برئاسة ميلوش زيمان، فتبين في عام 2016 مدى نفوذ المال الصيني مع توقيع زيمان وشي اتفاق شراكة استراتيجية. وفي عام 2018، كشفت صحيفة "إنفارمسيون" الدنماركية نجاح الصينيين في عام 2013 بزرع أقرب مقربيهم وهو جي جيان مينغ في براغ، ليكون مستشاراً اقتصادياً لزيمان. وجي جيان على صلة وثيقة بالجيش الصيني وواحد من المقرّبين من دوائر صنع القرار في بكين، وقد وعد براغ بمليارات الدولارات على شكل استثمارات في المطارات والفنادق وقطاع البناء ومؤسسات مالية وفي الرياضة. أما زيمان، الذي عُرف بمواقفه المعادية للصين في تسعينيات القرن الماضي، قبل انعطافه نحوها ونحو روسيا، فقد اعتبر في عام 2019 أن الصين "قدوة لتحقيق الاستقرار في المجتمع"، بحسب وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" والتلفزيون الصيني أثناء زيارته لبكين.



من جهته، رصد مركز أبحاث "مركاتور" للدراسات الصينية، ومقرّه ألمانيا، في عام 2018، مدى التغلغل الصيني في تقرير بعنوان "تقدم استبدادي: الردّ على تأثير الصين السياسي المتنامي في أوروبا"، كيف "وسّع الحزب الشيوعي الصيني أخيراً جهوده لممارسة نفوذه على النخب السياسية والاقتصادية في أوروبا، لأجل تسويق مثله العليا الاستبدادية عن طريق المال المستثمر في دول الاتحاد الأوروبي". وأقرّ معدو التقرير، الواقع في 128 صفحة، بقوة الدهاء الصيني بصورة أكثر من روسيا لخلق نفوذ لها في أوروبا "وهو نفوذ لا يثير الكثير من الانتباه كما يفعل الروس للتأثير على العملية الديمقراطية في أوروبا، وهو نفوذ صيني خطر على أوروبا".

بدورها، انتبهت الولايات المتحدة مبكراً للنفوذ الصيني، بيد أن وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتدشينه حقبة من الصراعات مع الحلفاء التقليديين على الضفة الأخرى من الأطلسي، منح بكين مزيداً من هامش حرية الحركة، بل ساهم في اندفاع العديد من الدول نحو حضنها. غير أنه عملياً، إن الانقسام الأوروبي، تحديداً في دول الاتحاد، على قضايا عديدة من اللاجئين منذ 2015 إلى وباء كورونا، ينسحب أيضاً على الموقف من بكين وسياساتها الداخلية. فعلى سبيل المثال تخضع بعض الدول، الأكثر شفافية وديمقراطية، لشروط صينية يراها المدافعون عن حقوق الإنسان "عجيبة". فأثناء زيارة وفد صيني إلى العاصمة الدنماركية كوبنهاغن في خريف العام الماضي، اشترط إبعاد متظاهرين يرفعون شعارات حقوقية، مثيراً سجالاً وغضباً إعلامياً لهذا الرضوخ. كل هذا جرى على الرغم من أن كوبنهاغن رفضت في عهدة حكومة يمين الوسط العام الماضي، بسبب موقف أميركي، قيام الصين بالاستثمار في جزيرة غرينلاند في القطب الشمالي، وبالأخص بناء وتوسيع مطارات على الجزيرة المتجمدة لوضع قدمها في منطقة صراع نفوذ غربي روسي على منطقة القطب المتجمد الشمالي.

حقبة صينية جديدة
منذ أن أصبح شي جينبينغ رئيساً للصين في عام 2012 تسارعت خطوات بكين "بطريقة توربينية للنفاذ إلى الاتحاد الأوروبي"، حسب ما تصف البروفسورة الدنماركية المتخصصة بالبروباغندا الصينية في جامعة كانتربي، آنا ماريا برادي، لتفسير ما تقوم به الصين أخيراً من باب محاربة كورونا في أوروبا أكثر من محاربته في دول الجوار القريبة أو حتى أكثر مما تقوم به مع إيران. غير أن ذلك يبدو وكأنه ينطوي على جزء خادع.



في روما مثلاً، وعلى الرغم من وصول طائرة صينية محمّلة بأدوات طبية لمكافحة كورونا منذ نحو 10 أيام، قدّمتها الماكينة الدعائية الصينية على أنها منحة وأنها "تظهر احترام العالم للصين"، فقد كشفت صحف إيطالية أن ما جرى تصديره من أطنان لم يكن منحة مجانية على الإطلاق. وفي العام الماضي في برلين، حذّر تقرير للاستخبارات الخارجية الألمانية من "محاولات اختراق صينية واسعة للتسلل إلى البرلمانات الإقليمية (في الولايات الألمانية) والوزارات والإدارات". كما أن الاستخبارات التشيكية، وعلى الرغم من افتتان رئيس البلد زيمان بالصين، اتفقت في عام 2017 مع تقرير للاستخبارات الداخلية الألمانية، بحسب "يورو أوبزرفر" على ظهور "محاولات عدوانية متشددة من الصين للتأثير في السياسة التشيكية". وتزامنت التحذيرات الأوروبية المتتالية عن النفوذ الصيني في أوروبا مع إعلان الرئيس الصيني، في عام 2017 قراراً كبيراً تحت مسمى "حقبة جديدة"، وضمن عنوان رئيسي "جعل الصين مركز العالم". ويعتقد شي أن نموذج التنمية الصيني المطلق لا بد أن يسوّق كبديل لأشكال الحكم الديمقراطي الليبرالي في الغرب. ويهدف الحزب الشيوعي الصيني، وفقاً لتقرير أعدته "ذا غارديان" في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، إلى خلق نفوذ واسع لوقف الانتقادات لسياسة حكم الصين أو محاولات إرخاء قبضته على السلطة، واستمراره في المحافظة على مصالح البلد في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه وقمع أي تطلعات استقلالية في التيبت.

تقسيم أوروبا
واقع الحال يقول إن الصين، وعلى مدى سنوات من العمل استطاعت من دون ضجيج، تحقيق نجاحات في مساعيها لاختراق أوروبا عموماً. فمن خلال زيادة وجودها الاقتصادي في الأجزاء الجنوبية والشرقية من الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، تمكنت الصين من خلق الشقاق داخل الاتحاد ومنع إيجاد سياسة أوروبية مشتركة في المناطق ذات الأهمية الكبيرة التي يركز عليها الصينيون. فعلاقة الصين بالمجر، في ظل حكم رئيس وزراء قومي شعبوي، وهو فيكتور أوربان، تطورت بشكل لافت منذ عام 2016. مع العلم أن المجر واليونان بقعتان هامتان في مسعى الصين لصرف مئات المليارات من الدولارات على شكل استثمار في البلدين.

وسبق أن سارع الصينيون منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، بضخّ أموالهم في اليونان، خصوصاً ميناء بيرايوس في ضواحي العاصمة أثينا، الموصوف بكونه "أحد رؤوس التنين الصيني لخلق طريق نحو المستهلك الأوروبي من خلال شبكة طرق وخطوط شحن". وليس العين على الموانئ فحسب، في ظلّ غضب أعضاء الحركة العمالية في اليونان بسبب تسريحهم أو فرض أجور متدنية عليهم، بل تسعى الصين لوسم بضائعها بـ"صنع في الاتحاد الأوروبي" من خلال سياسات استثمارية هائلة. ويشمل ذلك حتى هولندا وبلجيكا وإسبانيا، وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي، حتى وصلت الهيمنة الصينية إلى عشر إجمالي الموانئ الأوروبية.

وتعرقل الاستثمارات الصينية وعلاقة الصين بأطراف أخرى في الاتحاد الأوروبي كإيطاليا وإسبانيا وجمهورية التشيك وإلى حد ما بولندا، فضلاً عن مصالح برلين وباريس مع بكين فيما خص الاتفاق النووي مع طهران، قدرة أوروبا على أداء دور، أو حتى الخروج بموقف ناقد للسياسات الصينية، سواء في النزاعات الخارجية أو في الشأن الحقوقي أو اختفاء واستهداف منشقين معارضين، من السويد حتى سنغافورة.



أحد الأمثلة على نجاح استثمار الصين بإظهار نفسها "فاعلة خير" ومستثمرا منقذا، وترجمته في السياسة، هو نقض الإجماع الأوروبي في مارس/آذار 2017 على مشروع نقد مشترك للصين بسبب اعتقالها وتعذيبها محامين مدافعين عن حقوق الإنسان، وذلك بفعل خروج المجر بإصرار من أوربان عن هذا الإجماع. وسبق لليونان أن خرجت أيضاً عن الإجماع الأوروبي في إدانة سجل الصين الحقوقي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2016.

وفي مثال آخر على نتائج هذا التغلغل الصيني، استخدمت جمهورية التشيك واليونان حق النقض لوقف مشروع فرنسي ـ ألماني في الاتحاد الأوروبي لإدخال برنامج فحص مشترك في القارة حول الاستثمار الأجنبي، بهدف وقف عملية الاستحواذ الصينية على البنية التحتية والتكنولوجيا والموارد ذات الأهمية الإستراتيجية في أوروبا. الشكوك الأوروبية، سواء السياسية أو البحثية المتخصصة بسياسات بكين تجاه القارة الأوروبية لاستهداف وإضعاف القارة، عززتها خطوة الصين بإنشاء منتدى ما يسمى "16+1"، الذي تتجاوز به بكين بروكسل للالتقاء سنوياً بـ16 دولة أوروبية شرقية، وأغلبها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وبعنوان "تقوية التعاون الاقتصادي".

في السياق، يذكر تقرير مركز "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، المشار إليه آنفاً، أن الاستراتيجية الصينية في خرق وإضعاف الصف الأوروبي تستند إلى تعامل فردي أو مع مجموعة دول صغيرة بدل مواجهة الاتحاد ككتلة واحدة. ويضيف المركز في استنتاجاته أنه "من الواضح الآن أن الصين حاضرة داخل أوروبا، ليس فقط من خلال السلع والسياحة والزيارات الرسمية، ولكن أيضاً من خلال الاستثمار والقروض وخلق تجمعات موازية داخل القارة ومن خلال اختراق الدبلوماسيين والتأثير بتنامي علاقات عسكرية مع بعض الدول الأوروبية".

هستيريا عداء للصين؟
من جانبه يصف الإعلام الصيني، المسيطر عليه تماماً من الحزب الشيوعي الحاكم، مخاوف الأوروبيين بـ"هستيريا عداء للصين"، وهي نفس العبارة التي يستخدمها الروس حين يجري الحديث عن محاولتهم تفتيت مواقف الأوروبيين. موقف الإعلام الصيني يستند إلى السجال الذي خلقه اندفاع بكين الأخير نحو القارة العجوز، سواء في صربيا (التي يجري التفاوض معها لدخول النادي الأوروبي) وإيطاليا وإسبانيا، أو بحديث فون ديرلاين بعد لقاءات رسمية مع الصينيين عن المساعدات للأوروبيين. وعلى الرغم من النفي الصيني، إلا أن القلق الأوروبي السياسي من نفوذ الصين واضح وليس وليد اليوم فحسب. فتارة يأتي هذا النفوذ باستثمارات ضخمة تستغل أزمات أوروبية، وأخرى بوجه إنساني، كما هو حالياً الأمر الذي وصفته بعض الصحف الأوروبية الشمالية بأنه "تلميع لوجه الصين من خلال بروباغندا الحزب الشيوعي الحاكم". وكان وزير الخارجية الألماني السابق، زيغمار غابرييل أبدى قلقه من تزايد نفوذ الصين في القارة بقوله إن "الصين تطور نظاماً شاملاً، ليس مثل نظامنا (الأوروبي)، بل نظاماً لا يستند إلى الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإذا لم نقم في أوروبا بوضع إستراتيجية موحدة تجاه سياسات الصين الأوروبية فستنجح الصين في تقسيم أوروبا".