الصين هاجساً أميركياً مع صعود آسيوي
لم يعد سرّاً أن الصين، اليوم، هي الهاجس الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة، والمصدر الرئيسي لما ينتابها من مخاوف على فقدان الهيمنة السياسية والاقتصادية والفكرية التي تمارسها على العالم، وسيطرتها شبه المطلقة على القرار الدولي منذ عقود. ولم يعد يشكّ أحد في حتميّة صعود الصين إلى موقع السيادة الاقتصادية واستحالة النصر الأميركي في المنافسة التجارية العالمية بين العملاقين. هواجس تدفع الولايات المتحدة إلى الانكفاء، في مواقع عدة، على الساحة الدولية، والتركيز على المواجهة المفتوحة مع الصين، ومخاوف فرضت على واشنطن إعادة النظر، بشكل جذري، في أولوياتها الاستراتيجية وتحديد المخاطر التي تهدد أمنها القومي.
هل مفاد ذلك أن المواجهة العسكرية التي يجزم محللون عديدون بتوفر مقتضياتها باتت واقعة بين الطرفين، وأن كلا منهما يستعدّ لها، مخفياً نواياه الحقيقية وراء التصريحات الدبلوماسية والمواقف الحذرة؟ أو أن عندهما، خصوصاً الولايات المتحدة، ما يكفي من البراغماتية، للجنوح إلى التعاون والتكامل والتنسيق للتهدئة، والتمهيد لإرساء صيغة جديدة لتقاسم النفوذ والمكاسب وتوزيع الأدوار؟
تفيد دراسة أنجزها، أخيراً، صندوق النقد الدولي، بأن إجمالي الناتج المحلي للصين، في العام الماضي، تجاوز إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة للمرة الأولى، وأن الاخيرة ما زالت متقدمة على الصين بفارق كبير، من حيث متوسط دخل الفرد ومستوى التطور التكنولوجي، لكن الدراسات التي تضعها مراكز البحوث الأميركية تجمع على أن عشر سنوات، أو أقلّ، ستكون كافية لتلحق الصين بالولايات المتحدة واليابان، في مجال التكنولوجيات المتطورة، وليس مستبعداً أن تتفوّق في بعضها. ويرى محللون صينيّون أن هذه التوقعات هي التي تدفع الولايات المتحدة إلى قيادة حملة تضخيمية ممنهجة، على جبهات البيئة وحقوق الإنسان وحريّة التعبير، للنيل من سمعة الصين، وتسعى إلى تحريض جيرانها وتأليبهم عليها، في ملفات النزاعات على الحدود البحرية.
لا بد من التذكير، هنا، بأن التدخّل الأميركي ليس جديداً في القارة الآسيوية، بل يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر، وبلغ ذروته في الحرب العالمية الثانية، ثم في حربي فيتنام وكوريا، واستمرّ، عبر الوجود العسكري والتحالفات الدفاعية مع معظم بلدان جنوب شرقي آسيا. وليس من مؤشر أوضح على أولوية الرهان الآسيوي بالنسبة للولايات المتحدة من الاتفاق الذي وقعّته، أخيراً، مع بروناي دار السلام، لبناء أكبر قاعدة عسكرية في العالم هناك. وتأتي هذه الخطوة الأميركية المتقدمة بعد انكفاء الدور العسكري الأميركي في مناطق ساخنة، مثل افغانستان والعراق، ودأب واشنطن على إقفال الملف النووي الإيراني، فيما تتوالى الاحتجاجات الإقليمية المجاورة للصين ضد مطالب بكين بسط نفوذها على المناطق الحدودية المتنازع عليها.
منذ سنوات والعالم يعتبر أن منطقة الشرق الأوسط، بما فيها من حروب وصراعات مسلّحة واحتلالات وتطرّف ديني وإرهاب، هي التي تختزل مقوّمات إطلاق شرارة حرب عالمية ثالثة، فيما ينظر إلى القارة الآسيوية، وما تشهده من نمو اقتصادي وازدهار، مصدراً للرفاه والاستقرار. لكن، يبدو أن الصراعات المعمّرة والتليدة في الشرق الأوسط لم تعد مرشحة، في حسابات المحللين الاستراتيجيين الغربيين وتقديراتهم، للامتداد خارج الحيّز الإقليمي، وأن المشكلات التي تعتمل في الرحم الآسيوي، ولمعظمها جذور تاريخية تتمدّد إلى اليوم، هي التي قد تطلق شرارة حرب واسعة، على الرغم مما تشهده من نمو اقتصادي مضطرد، ومذهل أحياناً، وربما بسبب منه.
يتوقّف المحللون في دراساتهم عند التهديدات الكبرى التي تواجه العالم اليوم: تغيّر المناخ، والانتشار النووي، وتفشّي وباء جديد لا يعرف له علاج، وينتقل بسرعة من بلد إلى آخر، ومن قارة إلى أخرى، ومواجهة مسلحة بين قوتين كبريين، كالصين والهند، وأزمة اقتصادية عالمية، على غرار التي وقعت في العام 2008، وما زالت تداعياتها تنداح في عرض القارة الأوروبية وطولها. طبعاً، هناك تهديدات أخرى، مثل الإرهاب وشحّ المياه والفساد والجريمة المنظمة وتفشّي البطالة وازدياد عدد الدول الفاشلة، لكنها جميعاً لا تبعات لها واسعة النطاق، كالتهديدات الخمسة الأولى.
يقدّر البنك الآسيوي للتنمية أن آسيا أوشكت على مضاعفة استهلاكها من النفط والغاز الطبيعي، وزيادة استهلاكها من الفحم الشديد التلويث بنسبة 80%، بحيث تبلغ انبعاثاتها من الغازات السامة مجموع انبعاثات دول العالم الأخرى في العام 2035، والقارة الآسيوية هي التي تختزن أكبر كمية من الأسلحة النووية في العالم: الصين والهند والولايات المتحدة عبر قواعدها العسكرية وأساطيلها في المنطقة، وباكستان وكوريا الشمالية اللتان سبق أن تاجرتا بالتكنولوجيا النووية. يضاف إلى ذلك أن في آسيا أطول النزاعات المسلحة، من افغانستان إلى سريلانكا وكشمير والفيليبين وإندونيسيا، وأخطر الحدود الدولية بين الصين والهند، والهند وباكستان والكوريتين الجنوبية والشمالية.
وفي هذا المشهد المطلّ على الواجهة الشرقية لآسيا التي تختزن أكبر حشد من العتاد العسكري في العالم، والذي ما زالت تضاريس مخاطره قليلة الوضوح، بسبب من البعد الجغرافي والطفرة الاقتصادية، تصعد امبراطورية جديدة وتتمدد، لبسط نفوذها وترسيخ سيادتها، وإرساء معادلة اقليمية جديدة. تعرف الصين أن السيطرة على البحار هي من المقتضيات الأساسية لقيام الإمبراطورية، ولا تجهل أن الولايات المتحدة، وقبلها بريطانيا، لم تمتلك مقوّمات القوة العظمى، إلا بعد السيطرة على البحار المحيطة بها والقريبة منها. تحدد الخرائط البحرية الصينية، بوضوح، المناطق المتنازع عليها، والتي تقع، اليوم، تحت سيطرة اليابان وفيتنام والفيليبين وتايوان وسنغافورة وماليزيا وبروناي. إنها جزر صغيرة لا قيمة استراتيجية لها، لكن بكين تلحّ في مطالبها لاستعادة السيطرة عليها، وتواظب على ممارسة الضغوط التي بلغت، غير مرة، شفا المواجهة العسكرية مع جيرانها. وفيما تدأب الصين، منذ أواخر القرن الماضي، على زيادة موازنتها الدفاعية، بنسبة لا تقلّ عن 10% سنوياً، تحذو البلدان المجاورة حذوها، فتتكاثر الصواريخ القريبة والبعيدة المدى وأعداد القطع الحربية البحرية، وخصوصاً الغوّاصات، وتنشط المناورات العسكرية ودوريّات المراقبة التي أدّت، في حالات عديدة، إلى حوادث ولحظات توتر منذرة بمواجهات مسلّحة.
في مؤلفه المرجع "المرجل الآسيوي" يصف روبرت كابلان بحر الصين بأنه أهمّ منطقة بحرية استراتيجية في العالم. فيها يعبر نصف الشحن التجاري العالمي، أي ثلاثة أضعاف ما يعبر قناة السويس، وخمسة عشر ضعفاً ما يعبر قناة بناما، ولذا، تعتبر الصين السيطرة على هذه المنطقة البحرية أمراً حيوياً لمصالحها وأمنها القومي، وتسعى إلى إخراج القوى الأخرى منها، أو إبعادها عنها. لكن اليابان التي يعتمد اقتصادها، بشكل كليّ، على النقل البحري، تبدو مستعدة للذهاب بعيداً في تصدّيها للمخطط الصيني. وهنا، قد تتقاطع مصالحها مع مصالح واشنطن التي تدرك أن تفوقها العسكري الراهن وحده الكفيل بكبح تمدد بكين، والحيلولة دون انهزام اقتصادي مدمّر.
وجاءت الخطوات التجارية والنقدية التي أقدمت عليها الصين، في العامين المنصرمين، لتعزز المخاوف الأميركية من نوايا بكين، ولتدفع بخيارات المواجهة العسكرية إلى الواجهة. الصين تتخلّى تدريجياً عن الدولار في علاقاتها التجارية الثنائية، في الوقت الذي تملك كتلة هائلة من السيولة بالدولار، باتت تشكل "قنبلة ذرية نقدية" يمكن أن تؤدي الى تخلّي المصدرّين في العالم عن الارتكاز إلى العملة الأميركية، كما نجحت في إقامة منظومة مالية جديدة في مواجهة مؤسسات بريتون وودز، واستقطبت إليها معظم الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة. وتراقب واشنطن، بقلق كبير، كيف تراكم بكين كميات ضخمة من الذهب والأملاك العقارية، عبر الصناديق الاستثمارية، تحسبّاً لانخفاض مفاجئ في سعر صرف الدولار، أو لاستيعاب الخسائر المتوقعة في استثماراتها المدولرة، إذا قررت أن توجّه لها ضربة قاضية.
منذ الحرب الكبرى الأولى في التاريخ بين أثينا وإسبارطة، لم تتغيّر المعادلة: الخوف من صعود الامبراطورية المنافسة وسيطرتها، هو الذي يطلق نذير الحرب، كما تبيّن في إحدى عشرة مرة منذ القرن الخامس عشر. خلال جولته الآسيوية، مطلع شهر إبريل/نيسان الجاري، أعلن وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغيل، أمام حشد من الأكاديميين في طوكيو أن الولايات المتحدة لن تغضّ الطرف عندما تتعرّض مبادئ أساسية في النظام الدولي للانتهاك. تصريحات فيها من التحذير بقدر ما فيها من التهديد، والعجز الذي قد يكون كاشفاً لما تحضّر له واشنطن في إطار نظرية "الصدفة المتعمّدة" التي أرست عليها جزءاً مهماً من سياستها الأمنية.