يعاني الصناع التقليديون في موريتانيا من موروث اجتماعي يحتقر الحرفيين، وينظر إليهم باعتبارهم ينتمون إلى أدنى درجات الهرم الاجتماعي وفق تراتبية طبقية كانت سائدة في المجتمع الموريتاني القديم، ويؤكد نشطاء أنها ما زالت قائمة حتى اليوم رغم المحاولات المتواصلة لإنهاء التمييز الطبقي.
ويتعامل المجتمع مع الصناع التقليديين، الذين يعرفون شعبيا في موريتانيا باسم "لمعلمين"، وفق ثقافة قديمة رائجة أساسها التحقير الاجتماعي، وهي الثقافة التي يصفها نشطاء المجتمع المدني وحقوقيون بأنها نوع من "الاحتقار المعنوي"، ويتم السخرية منهم وإطلاق النكات حولهم، ضمن موروث طبقي يصنف المجتمع إلى فئات وطبقات.
وتعتبر معاناة "لمعلمين" أقل مقارنة بشريحة الأرقاء السابقين، غير أنهم يصفون طريقة التعاطي معهم بأنها نوع من "العبودية المعنوية"، فالتمييز الاجتماعي ضدهم يمنع التزاوج معهم، ويجعلهم وفق كثير من فئات المجتمع الموريتاني غير مؤهلين للقيادة أو الترقي أو تولي المسؤوليات، حتى في المناصب الدينية.
ونشطت مجموعات شبابية وحقوقية تدافع عن شريحة "لمعلمين" خلال السنوات الماضية، وتدعو الحكومة الموريتانية إلى إنصافهم، ومحاربة مظاهر التمييز ضدهم على غرار الحراك الذين يقوده نشطاء شريحة الأرقّاء السابقين "لحراطين" ضد العبودية ومخلفاتها.
ويتوارث غالبية "لمعلمين" مهناً، أبرزها الحدادة وصناعات الحرف اليدوية التقليدية، وهم جزء من شريحة "البظان" التي تمثل غالبية سكان موريتانيا، والتي تتكون من عدة فئات اجتماعية أشهرها "لحراطين" وهم الأرقاء السابقون، و"إكاون" وهم المتخصصون في المشغولات والحرف التقليدية، وغيرها.
ومع أن هذه التقسيمات جزء من موروثات تجاوزها الزمن، إلا أن المجتمع الموريتاني الحديث بكافة شرائحه لم يستطع التخلص منها، وتشهد البلاد حاليا جدلا واسعا بشأن العنصرية والطبقية، وتتهم أطراف مقربة من السلطات النشطاء والحقوقيين بالمتاجرة بالموضوع لتشويه سمعة البلاد.
ويصف محمد يحيى ولد عبد الرحمن، الناشط في حراك "لمعلمين" واقع الشريحة التي ينتمي إليها بأنه مؤلم، مؤكدا لـ"العربي الجديد"، أنهم "شريحة اجتماعية تمارس مهنة الحدادة حتى أصبحنا ننسب إليها، وألصق البعض بنا أوصافا مذمومة، ونسجت خرافات وأساطير حولنا من مثل أننا لا نقبل الصلاة خلف أفراد الشرائح الأخرى، وكل ذلك من أجل عزلنا اجتماعياً حتى لا ننافس في الترقي المجتمعي في بلادنا، وهذه النظرة انسحبت على التعاطي معنا سياسيا واجتماعياً. حتى أنه تم طمس تاريخنا المهني والنضالي رغم أنه جزء من تاريخ المجتمع الموريتاني".
ازدراء وتهميش
ويرتكز التمييز ضد "لمعلمين" على ترويج النظرة الدونية والازدراء، وصولا إلى تزوير نصوص دينية لوصمهم، إضافة إلى تعاطي الدولة معهم باعتبارهم لا يصلحون للقيادة، والتنكر لأدائهم الاقتصادي كمجموعة حرفية ساهمت ولا تزال في الاقتصاد الوطني، وتهميش الأحزاب السياسية لأعضائها من "لمعلمين".
ويضيف ولد عبد الرحمن: "هناك تمييز ضد لمعلمين كبشر كرمهم الله، حيث ينظر إليهم على أنهم مواطنون أقل من بقية المواطنين، ولا يعترف بهم كفئة اجتماعية ساهمت في بناء الدولة وفي محاربة الاستعمار".
وعن مطالبهم يقول الناشط المدني: "نطلب الإنصاف، ووقف العنصرية ضدنا، خصوصا من الدولة، لأن هنالك من يؤسس لذلك دينيا، نريد إنصاف كوادرنا ومنحنا فرصا عادلة في الحياة، وفي الإعلام، ومكانا في مهام تسيير الشأن العام. نطلب المساواة والعدالة الاجتماعية".
ويعتبر ولد عبد الرحمن "أن التمييز ضد لمعلمين اقترفه المجتمع أولا، واقترفته الدولة كامتداد للمجتمع من خلال عدم تجريمها لحالة الازدراء، ولذلك انتفضنا ضد هذه النظرة من قبل المجتمع والدولة".
أساطير متوارثة
ويقول خليهن ولد محمد الأمين، الباحث بالمركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية لـ"العربي الجديد"، إن "الحروب والفوضى الاجتماعية التي شهدتها موريتانيا لفترات متعددة، كنت سببا في إفراز كثير من الظواهر السلبية، منها احتقار لمعلمين، والتي كانت ناتجة عن استضعاف المجموعات القوية للمجموعات الضعيفة، وتوظيفها في خدمتها، ومع التراكمات ترسخت ثقافة تحتقر المجموعات المستضعفة وتنسج حولها أساطير لتبرير ذلك".
ويؤكد ولد محمد الأمين، أن "احتقار بعض المجموعات الاجتماعية لا تزال موجودة بشكل كبير في موريتانيا، لأنها قائمة على ثقافة مجتمعية، وبالتالي فمن الصعب محوها"، ويقترح "تحرير الثقافة الموريتانية من المصطلحات التي تسيء إلى الآخرين، ونشر الثقافة الإسلامية الصحيحة التي لا تعطي لأحد ميزة على أحد إلا على أساس التقوى والعمل الصالح".
وانتقد المقرر الأممي الخاص بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، فيليب آليستون، في تقرير عقب زيارته موريتانيا في مايو/أيار 2016، وجود "غياب منهجي للحراطين والموريتانيين الأفارقة من جميع المناصب، وإقصاء مستمر تجاههم في جوانب عدة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية، رغم أنهم يشكلان ثلثي السكان".
وألغت موريتانيا عام 1981 نظام العبودية، لكنّ تشبث القبائل العربية بها وغياب الإرادة الحقيقية للدولة، جعل القانون حبراً على ورق، وعام 2007، صدر قانون يجرّم العبودية، ويسمح بمحاكمة المتاجرين بالعبيد، وعام 2015 صدر قانون يصنف الجرائم المرتبطة بالاسترقاق كجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.