16 مايو 2017
الصراع على "الواقع" السعودي
أصدر سعودي، قبل أيام، مقطع فيديو على "يوتيوب"، يحاول فيه توضيح أن "الواقع" السعودي يخالف ما تحاول وسائل الإعلام الغربية تصويره. جاء المقطع ردّا على فيلم وثائقي ضمن برنامج أميركي بعنوان "السعودية مكشوفة"، حاول القائمون عليه كشف "الواقع" في السعودية عبر كاميرات مخفية. وقبل أيام أيضاً، وجّهت صحيفة "نيويورك تايمز" طلباً للنساء السعوديات للحديث عن حياتهن، الأمر الذي أحدث انقساماً بين المؤيدين لنقل الـ "واقع" السعودي لصحيفة أجنبية والمعارضين لذلك.
ما يجمع كل هذه المحاولات للوصول إلى "الواقع" هو اشتراكها بفهم بسيط وسطحي لما يعنيه "الواقع"، فالمتحمس للكشف عن الواقع والمعارض لتشويهه يشتركان في اعتبار الواقع شيئاً موجوداً خارج الذهن، شيئاً موضوعياً، يمكن استيعابه بسهولة وببساطة، بل والاحتجاج به. وبالفعل، جزء كبير من الحجج الحداثية، علمانية أم إسلامية، تُقدّم بصيغة "التماشي مع الواقع"، أو أن "الواقع تجاوز هذا الأمر" أو ذاك، بالإضافة إلى كل النقاش الطويل حول علاقة "النص" وهو الوحي غالباً، بالواقع. فالواقع هنا لا يقدّم باعتباره قابلاً للفهم والاستيعاب بشكل بسيط وواضح، وأنه مجرّد انعكاسٍ في الذهن لما يتماثل للعين، بل هو أيضاً، عند المنتمين لهذه النظرة بمختلف مشاربهم، يرقى إلى أن يكون مصدر احتجاج، ومنبع قيم، وفيصلاً بين الحق والباطل.
لعلّ أوّل من تفطّن لهذه النظرة للواقع في الفكر العربي هو أبو يعرب المرزوقي، في مقالته في عام 2007 "الواقع.. وثن الفكر العربي الجديد"، أوضح فيها أن ما يزعم أصحابه أنه واقع ليس إلا نصّا أيضا. كيف نعرف الواقع؟ في الجرائد؟ هذه نصوص. في الأدب؟ هذه نصوص. في كتب الفلسفة والفكر؟ هذه نصوص. في رسائل الناس وحديثهم عن أنفسهم؟ هذه نصوص. لا يوجد واقع ملقىً على الطريق، يمكن أن ندركه بشكل بسيط، بل إن ما يسمى "واقعاً" هو شبكة معقدة من النصوص والرموز والروايات والسرديات التي لا يمكن، بحال، الزعم بأنها بسيطة وواضحة، ويمكن إدراكها بسهولة، بل الاحتكام إليها. ما رآه المرزوقي، في مقالته تلك، أنه لا يوجد مكان خارج النصّ، يمكن الخروج إليه، من أجل محاكمة هذا النص وتقييمه، فكل خروج من النصّ أو الرمز هو خروج إلى نص آخر أو رمز آخر، أكثر تجريداً منه، وبالتالي، أكثر تعقيدا وأكثر مدعاةً لدقّة في الفهم والمعرفة.
لا يعني هذا الفهم للواقع باعتباره مجموعة من النصوص والرموز أن الواقع غير موجود، أو
أن كل شيء نسبي، أو أننا لا يمكننا التحقق من أي شيء، أو الحكم على أي شيء. على العكس، ما يعنيه هذا الفهم هو أن كل هذه الأمور ممكنة، لكنها ليست سهلة، وليست بسيطة، بل صعبة وتحتاج كثيراً من التفكر والتأمل والتقصي والتأويل والبحث.
إن كون "الواقع معقد" هو ما يدفع كثيرين إلى الاستسلام لسردياتٍ مبسطة عنه، سرديات تقسم الناس عادة إلى قسمين: أخيار وأشرار، أو سرديات تقسم العالم إلى جزأين، متخلف ومتقدم. ذلك لأن مثل هذه السرديات مريحة أكثر من مراقبة الحوادث اليومية المستمرة بعشوائيتها، وعدم انتظامها وتعقيدها. كما أنه، ضمن هذه السرديات المبسطة، يتم تضمين حمولاتٍ قيمية، وتحيّزات أيديولوجية، تُقدم للمستمع أو القارئ باعتبارها حياداً، أو أنها ما يجب أن تكون عليه الأمور، فلا تكتفي بطمأنة متلقيها، بل تحوّله إلى قاض خبير بأمور الواقع، غير أن هذه السرديات بادعائها تمثيل الواقع، بنسخته المبسطة الهشّة، تعمل على عكس دعواها: أي إبعاد الناس عن مساءلة الحقائق والوصول إليها، ذلك أن إدراك أن الواقع معقد يدفع إلى السعي إلى فهمه، بدل الاحتجاج به.
يحكي الفيلسوف الفرنسي، ديدير فاسين، أن لدى الجهة الحكومية في فرنسا التي عليها أن تقدم الدعم للفقراء ميزانية محدودة. ولهذا، عليها، عندما تراجع الطلبات المقدمة لها أن تحدّد أمرين: هل يستحق هذا المتقدم الدعم؟ إن كانت الإجابة بنعم، يأتي السؤال الثاني: كم المبلغ الذي نقدمه؟ تعتمد الإجابة على السؤالين، بشكل كبير، على معرفة هذه الجهة بـ "واقع" المتقدمين. وحتى يعرفون هذا الواقع، يقدم المتقدمون مجموعة من الوثائق، تشرح حالهم، من بينها خطاب يشرح فيه المتقدم ظروفه المالية، وحاجته للمال. يتنافس هنا، في هذه الوثيقة، المتقدمون على تصوير "واقعهم" بالشكل الذي يعتقدون أنه سيستمد تعاطف اللجنة أكثر من غيرهم، وبالتالي، يتيح لهم الحصول على الدعم أكثر من غيرهم.
عندما يكتب المتقدم عن حالته، فهو، غالباً، سيكون استراتيجياً، أي أنه سيقدم واقعه بالشكل الذي يخدمه. هذا لا يعني، بالضرورة، أنه سيكذب، بل أنه سيبرز جوانب ويخفي جوانب أخرى،
بحيث تكون الصورة التي يقدمها عن الواقع ملائمة لما يعتقد أن مستمعه يتوقعه منه، وما سيحرّك تعاطفه. ونجد هذه النزعة التي تدفع الأفراد، بشكل استراتيجي، إلى تصوير واقعهم بالشكل الذي يتناسب مع أهدافهم ومصالحهم وغاياتهم، عند أصناف البشر كافة: المجرم والضحية، من يمارس الاضطهاد ومن يقع عليه. ولهذا، يصبح الأمر مدهشاً، عندما نرى من يتعامل مع هذه التقريرات أو "الشهادات" التي يتقدم بها الأفراد، خصوصا إذا كان يتم تصويرهم ضحايا أو مستضعفين، وكأنها تعكس الواقع فقط كما هو بشكل متجرّد، وليس أنها تعكس أيضاً، وفي جانب كبير منها، مصالح هؤلاء الأفراد وغاياتهم وأهدافهم.
لا تهدف الإشارة إلى تعقيد الواقع إلى التشكيك في حكايات المظالم والاضطهاد، بل إلى تفعيل عملية الفهم، ذلك أنه لا شيء أسوأ من تعاطف أعمى بلا فهم، تعاطف يعميه انفعاله مع ما يعتبره واقعها عن التفكير بما يجب عمله إلى تبرير كل فعل، فهذا النوع من التعاطف الخالي من الفهم والتفكّر هو غالبا ما يكون الرفيق الرئيسي للفظاعة والقهر.
ما يجمع كل هذه المحاولات للوصول إلى "الواقع" هو اشتراكها بفهم بسيط وسطحي لما يعنيه "الواقع"، فالمتحمس للكشف عن الواقع والمعارض لتشويهه يشتركان في اعتبار الواقع شيئاً موجوداً خارج الذهن، شيئاً موضوعياً، يمكن استيعابه بسهولة وببساطة، بل والاحتجاج به. وبالفعل، جزء كبير من الحجج الحداثية، علمانية أم إسلامية، تُقدّم بصيغة "التماشي مع الواقع"، أو أن "الواقع تجاوز هذا الأمر" أو ذاك، بالإضافة إلى كل النقاش الطويل حول علاقة "النص" وهو الوحي غالباً، بالواقع. فالواقع هنا لا يقدّم باعتباره قابلاً للفهم والاستيعاب بشكل بسيط وواضح، وأنه مجرّد انعكاسٍ في الذهن لما يتماثل للعين، بل هو أيضاً، عند المنتمين لهذه النظرة بمختلف مشاربهم، يرقى إلى أن يكون مصدر احتجاج، ومنبع قيم، وفيصلاً بين الحق والباطل.
لعلّ أوّل من تفطّن لهذه النظرة للواقع في الفكر العربي هو أبو يعرب المرزوقي، في مقالته في عام 2007 "الواقع.. وثن الفكر العربي الجديد"، أوضح فيها أن ما يزعم أصحابه أنه واقع ليس إلا نصّا أيضا. كيف نعرف الواقع؟ في الجرائد؟ هذه نصوص. في الأدب؟ هذه نصوص. في كتب الفلسفة والفكر؟ هذه نصوص. في رسائل الناس وحديثهم عن أنفسهم؟ هذه نصوص. لا يوجد واقع ملقىً على الطريق، يمكن أن ندركه بشكل بسيط، بل إن ما يسمى "واقعاً" هو شبكة معقدة من النصوص والرموز والروايات والسرديات التي لا يمكن، بحال، الزعم بأنها بسيطة وواضحة، ويمكن إدراكها بسهولة، بل الاحتكام إليها. ما رآه المرزوقي، في مقالته تلك، أنه لا يوجد مكان خارج النصّ، يمكن الخروج إليه، من أجل محاكمة هذا النص وتقييمه، فكل خروج من النصّ أو الرمز هو خروج إلى نص آخر أو رمز آخر، أكثر تجريداً منه، وبالتالي، أكثر تعقيدا وأكثر مدعاةً لدقّة في الفهم والمعرفة.
لا يعني هذا الفهم للواقع باعتباره مجموعة من النصوص والرموز أن الواقع غير موجود، أو
إن كون "الواقع معقد" هو ما يدفع كثيرين إلى الاستسلام لسردياتٍ مبسطة عنه، سرديات تقسم الناس عادة إلى قسمين: أخيار وأشرار، أو سرديات تقسم العالم إلى جزأين، متخلف ومتقدم. ذلك لأن مثل هذه السرديات مريحة أكثر من مراقبة الحوادث اليومية المستمرة بعشوائيتها، وعدم انتظامها وتعقيدها. كما أنه، ضمن هذه السرديات المبسطة، يتم تضمين حمولاتٍ قيمية، وتحيّزات أيديولوجية، تُقدم للمستمع أو القارئ باعتبارها حياداً، أو أنها ما يجب أن تكون عليه الأمور، فلا تكتفي بطمأنة متلقيها، بل تحوّله إلى قاض خبير بأمور الواقع، غير أن هذه السرديات بادعائها تمثيل الواقع، بنسخته المبسطة الهشّة، تعمل على عكس دعواها: أي إبعاد الناس عن مساءلة الحقائق والوصول إليها، ذلك أن إدراك أن الواقع معقد يدفع إلى السعي إلى فهمه، بدل الاحتجاج به.
يحكي الفيلسوف الفرنسي، ديدير فاسين، أن لدى الجهة الحكومية في فرنسا التي عليها أن تقدم الدعم للفقراء ميزانية محدودة. ولهذا، عليها، عندما تراجع الطلبات المقدمة لها أن تحدّد أمرين: هل يستحق هذا المتقدم الدعم؟ إن كانت الإجابة بنعم، يأتي السؤال الثاني: كم المبلغ الذي نقدمه؟ تعتمد الإجابة على السؤالين، بشكل كبير، على معرفة هذه الجهة بـ "واقع" المتقدمين. وحتى يعرفون هذا الواقع، يقدم المتقدمون مجموعة من الوثائق، تشرح حالهم، من بينها خطاب يشرح فيه المتقدم ظروفه المالية، وحاجته للمال. يتنافس هنا، في هذه الوثيقة، المتقدمون على تصوير "واقعهم" بالشكل الذي يعتقدون أنه سيستمد تعاطف اللجنة أكثر من غيرهم، وبالتالي، يتيح لهم الحصول على الدعم أكثر من غيرهم.
عندما يكتب المتقدم عن حالته، فهو، غالباً، سيكون استراتيجياً، أي أنه سيقدم واقعه بالشكل الذي يخدمه. هذا لا يعني، بالضرورة، أنه سيكذب، بل أنه سيبرز جوانب ويخفي جوانب أخرى،
لا تهدف الإشارة إلى تعقيد الواقع إلى التشكيك في حكايات المظالم والاضطهاد، بل إلى تفعيل عملية الفهم، ذلك أنه لا شيء أسوأ من تعاطف أعمى بلا فهم، تعاطف يعميه انفعاله مع ما يعتبره واقعها عن التفكير بما يجب عمله إلى تبرير كل فعل، فهذا النوع من التعاطف الخالي من الفهم والتفكّر هو غالبا ما يكون الرفيق الرئيسي للفظاعة والقهر.