ما إن حسمت القوات العراقية معركة تلعفر، غرب الموصل، والتي كانت سريعة جداً قياساً بالمعارك التي سبقتها، حتى بدأت سيناريوهات مستقبل البلدة تطفو على السطح، لتعكس مدى الصراع السياسي المحتدم برؤى مختلفة وتنازع أجندات داخلية بارتباطات خارجية بشأن البلدة، الأمر الذي يضع مستقبلها على طريق مجهول لا تعرف نهايته.
ولم تترك الأجندات السياسية المتنازعة على البلدة، فرصة لعودة الأهالي النازحين منها، حتى حثّت تلك الجهات الخطى لتحقيق المكاسب السياسية، في وقت تسعى المليشيات لفرض سياسة الأمر الواقع، من خلال سيطرتها على عموم البلدة وتهيئة قواتها لمسك الأرض فيها والسيطرة أمنياً عليها، ما يضعها أمام حلقة جديدة من حلقات التغيير الديموغرافي. وقال مسؤول حكومي عراقي رفيع المستوى، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الصراع السياسي بشأن تلعفر ليس وليد اليوم، بل بدأ مع انطلاق معركة الموصل، لكنّه اليوم، ومع انتهاء المعركة، أخذ طابعاً سياسياً خطيراً، يضع البلدة أمام سيناريوهات عديدة تتحكم بمصيرها المجهول"، مبيناً أنّ "المكونات الأصلية لتلعفر منقسمة على نفسها، فكل منها يريد أن يحقق ما يصبو إليه في البلدة". وأضاف أنّ "الحشد (الشعبي) والتركمان المؤيدين له يريدون لتلعفر أن تكون محافظة مستقلة عن الموصل، وهم يتحرّكون وفقاً لهذا الإطار، وينسقون مع الحكومة العراقية ويحظون بدعم من إيران"، مبيناً أنّ "هذا الطرح وصل إلى مكتب (رئيس الحكومة حيدر) العبادي، وأنّ داعميه يحاولون إقناع العبادي بهذا التوجه، وفقاً لما يرونه من انعكاس سياسي يصب في صالح البلاد، بحسب رأيهم".
وقال النائب التركماني، نيازي معمار أوغلو، إنّه "تم استحضار جميع الموافقات الأصولية السابقة الموجودة في مجلس الوزراء بشأن تحويل تلعفر إلى محافظة"، مؤكداً أنّ "تلعفر يمثل أكبر قضاء في البلاد، وهناك دعم برلماني وحكومي وشعبي للمضي بتحويله إلى محافظة بعد الانتهاء من تحريره". وأشار إلى أنّ "الموافقات الرسمية مكتملة في أمانة مجلس الوزراء، وإذا اضطررنا فسنجمع أكثر من 250 توقيعاً داخل البرلمان لإصدار قرار ملزم للحكومة للإسراع بتطبيق تلك الموافقات"، معتبراً أنّ "استحداث محافظة تلعفر خطوة مهمة لتطييب خواطر المكون التركماني".
ويقف عرب تلعفر وجزء من تركمانها ضد هذا الطرح، ويرفضونه بشدّة، مطالبين ببقاء البلدة تحت خيمة محافظة الموصل. ومع هذا الشد والجذب والصراع السياسي بشأن تلعفر، تستعد مليشيات "الحشد الشعبي" لاستثمار ذلك من خلال فرض الأمر الواقع، من خلال تهيئة مليشيا خاصة لمسك الأرض في البلدة وفرض السيطرة الكاملة عليها، ومن ثم منع أهلها من العودة إليها. وقال عقيد في الجيش العراقي متواجد حالياً في تلعفر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "مليشيا الحشد نشرت قطعاتها في عموم مناطق البلدة المحرّرة، وراياتها تغطي سماء المنطقة وكل البنايات فيها"، مبيناً أنّ مليشيا "الحشد تعمل حالياً على تجهيز مليشيا الحسين، وهي من الفصائل التابعة للحشد لمسك الأرض في تلعفر بشكل كامل ومسك ملفها الأمني". وأضاف أن "هذه المليشيا، وهي مليشيا تركمانية، اشتركت مجموعات منها في معركة تلعفر، واليوم ووفقاً للأوامر التي تلقتها انسحبت، وهي تجري الاستعدادات اللوجستية والفنية لمسك الأرض"، مشيراً إلى أنّ "الحشد يسعى لفرض سياسة الأمر الواقع في البلدة من خلال السيطرة الكاملة عليها". وأكد أنّ "هذه المليشيا ستتولى عملية ما يسمى بالتدقيق الأمني للعوائل العائدة، والتي ستواجه تهماً عديدة، منها الانتماء إلى داعش وتقديم الدعم والإسناد له وتقديم المعلومات الاستخبارية للتنظيم، وما إلى ذلك من تهم ستجبر الأهالي الأصليين على عدم العودة خوفاً من تلك التهم غير القانونية التي ستلصق بهم، وما سيترتب عليها من نتائج وخيمة". واعتبر أنّ "كل ذلك هو تمهيد لعملية التغيير الديموغرافي التي تسعى مليشيات الحشد لتطبيقها في تلعفر".
ويحذّر مسؤولو البلدة والأهالي من "مغبة ترك المليشيات تتحكم بمصير تلعفر وترسم خارطتها الجديدة بيدها، ما يضعنا أمام مستقبل خطير للبلدة، وبداية لعملية تغيير ديموغرافي فيها". وقال المسؤول المحلي في البلدة، فلاح حسن، لـ"العربي الجديد"، إنّ "البلدة اليوم أمام منعطف خطير في تاريخها، والحكومة يجب أن يكون لها رأي واضح إزاء ذلك، ولا يمكن أن تترك تلعفر لقمة سائغة بيد المليشيات التي تخطط لتحقيق مكاسب لها وللجهات الداعمة لها"، مبيناً "أنّنا كسكان أصليين للبلدة نرفض كل الطروحات التي تسعى لفصل البلدة عن الموصل، ولا نقبل بها بكل الأحوال". وأشار إلى أنّ "أي طرح يجب أن يراعي مصلحة البلدة ومصلحة أهلها، وألا يكون نقطة صراع جديد فيها"، موضحاً "لا يمكن أن نستبدل داعش بداعش جديد يسيطر على البلدة ويقتطعها وينفذ أجنداته الخارجية فيها". ودعا الحكومة إلى "تسليم الملف الأمني لقوات الجيش وتدريب العشائر لحماية مناطقهم، وكف يد المليشيات والجهات التي لا تريد الخير لتلعفر". وتتحدّث المليشيات والجهات الداعمة لها عن أنّ سيطرتها على تلعفر ستنتهي بعد التدقيق الأمني وضبط ملف البلدة بشكل كامل وإعادة أهلها، لكنّ الأهالي يرون أنّ ذلك لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون، إذ إن أطماع المليشيات في تلعفر لا تقل، إن لم تزِد، عن أطماعها في جرف الصخر وغيرها من مناطق العراق التي منع أهلها من العودة إليها منذ ثلاث سنوات.