الصداقة والسياسة ..
وضع الغرب الصداقة في قلب السياسة، وفي أصلها الجينيالوجي، منذ أرسطو وإلى جاك دريدا (كتب عن سياسة الصداقة)، مرورا بطوماس الإكويني ومونطاني. وفي المقابل، وضع تاريخ العرب الصداقة في قلب النبوة، ولم يحدث أن فكرنا في الصداقة، إلا كسند إنساني لرسالة الدين في علاقة أبو بكر ورسول الله، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم.
في المغرب، طرحت وفاة وزير الدولة وأحد أعمدة الحزب الرئيسي في الحكومة (العدالة والتنمية) وأحد الوجوه البارزة في التيار الإسلامي، قضية الصداقة بينه وبين رئيس الحكومة. هذه العلاقة في قلب السياسة، ووسعت النقاش داخل حقل سياسي مغربي، عرف ثنائيات من هذا النوع في فترة سابقة (منذ الاستقلال)، في حين تسير حالياً نحو الانقراض. وهناك في المجتمع، وفي الدولة، صداقة سياسية بين ملك المغرب، محمد السادس، وفؤاد عالي الهمة، وصداقة (انتهت اضطراريا بفجيعة كبرى) بين عبد الإله بنكيران وعبد الله باها، وتكاد لا تجد ثنائيا من هذا القبيل في المغرب اليوم.
يشير السؤال، عند تعميمه وتعميقه، إلى ضعف الصداقة فضاء للسياسة، في حياة العرب عموماً. والمحاولات الرئيسية هي التي انطلقت من الجذر اللاهوتي للسياسة مع أبو بكر ومحمد عليه الصلاة والسلام، وأرادت أن تستمر، عبر الإسلام السياسي، في إعادة دماء الجماعة الأولى. (أصدقاء النبي: صحابته). في العالم العربي، أو في شرق المتوسط وغربه، كل ثنائيات الصداقة في رأس الدولة انتهت بالغدر، أو الهزيمة، ونماذج على ثنائيات جمال عبد الناصر- عبد الحكيم عامر، أحمد حسن البكر- صدام حسين، أحمد بن بلة- هواري بومدين.
استند الغرب إلى الفيلسوف اللاهوتي، طوماس الأكويني، وكتب يقول إن الصداقة السياسية أرقى أشكال السعادة الأخلاقية، ووضع لتحقيقها أربعة شروط، منها وجود فعلي للسعادة الأخلاقية، ومفادها بأن الناس عندما يشعرون بالصداقة، لا يكونون في حاجة إلى العدالة، فهي قائمة في نشيد الصداقة، كما يقول مونطاني، ومنها المواطنة، بمعنى أن الذي يتخلى عن مواطنته لا يمكنه أن يصنف نفسه من الذين يمكنهم أن يكونوا أصدقاء في السياسة.
ليست لدينا محاولات حقيقية في تفسير، أو تفكير، الصداقة السياسية، وحتى الكتابات القديمة لدى العرب لم تحاول أن تقترب من منطقة التلاقي بين الحميمية والسياسة، بين الدولة والفرد، وجدليتهما عندما يتعلق الأمر بالصداقة السياسية.
في كتابها عن الحياوات السياسية، تتحدث حنة آرندت عن الأهمية السياسية للصداقة، وصعوبة فهمها والتفكير فيها. تقول فيلسوفة المناهضة الأخلاقية للشر في صفحات (34/35، منشورات غاليمار) في تفسير صعوبة إدراك الأهمية السياسية للصداقة، عندما نقرأ، مثلا، قول أرسطو إن الصداقة بين المواطنين أحد الشروط الأساسية للرفاه المشترك، نميل إلى اعتقاد أنه يتحدث فقط عن غياب الفصائل والحروب الأهلية داخل المدينة، والحال أن جوهر الصداقة عند الإغريق يكمن، بالضبط، في الخطاب، حيث كانوا يعتبرون أن الحديث المشترك القار، وحده، يوحد المواطنين، وفي الحوار تتجلى الراهنية السياسية للصداقة، وإنسانيتها الخاصة بها، وتضيف أن العالم لا يصبح إنسانياً لأن الإنسان صنعه، بل لا يصبح إنسانياً إلا إذا أصبح موضوعاً للحوار. إنسانية الإنسان تتحقق في محاورات الصداقة.
وعندما يتحدث عبد الإله بنكيران، مثلاً، عن عبد الله باها، يعطينا الصورة التي يريد أن تكون عليها السياسة في البلاد، أي أن السياسة لا تصبح إنسانية، إلا إذا تحدثنا عنها مع من يشبهنا، وفي الحديث عن الصداقة، نجعل السياسة إنسانية.
الصداقة، اشتقاقياً، قريبة من الصدق، وهي تحتاج إلى الثقة لبناء الفعل المشترك. في المغرب، لم تكن الصداقة دوماً مثالاً للنموذج السياسي، عندما تكون في قلب الدولة، والحال أن الصداقة، في حد ذاتها، شيء أساسي، وتمرين على حيوية إنسانية أخلاقية.
بالنسبة للملوك، تكون الصداقة، ليس فقط اختياراً سياسياً، وله أهمية سياسية، حسب زاوية كل رئيس دولة على حدة (محمد السادس ليس هو الحسن الثاني، والهمة ليس هو أحمد رضا اكديرة)، لكن الصداقة، بما هي عربون للثقة، تشكل الوجه الإنساني السياسي الذي يكون أقرب للحاكم، وهي الوجه الإنساني في سلوكه السياسي.
وهذا لا يلغي أن الصداقة تحظى دوما بالتلقي نفسه. هناك من يتفادى الحديث فيها، لأنها، بكل بساطة، تعني موقفاً، قد لا يكون هو ما يحبه أصحابها، وربما لأنها صداقة قد تكون موجهة، أيضاً، ضد صداقة أخرى مقابلها.
وهنا، يمكن للصداقة، حسب جاك دريدا (سياسة الصداقة /دار غاليلي) أن تعود جينيالوجيا إلى الثنائي الصديق/ العدو، وبالتالي، تكون مرتبطة عبر هذه الثنائية صداقة /عداوة بالمفهوم المهيمن للصداقة. وعندما تميل الصداقة إلى العدم، يمكن أن نشاهد الحروب التي تقع في التنظيمات الجماعية، أيا كانت هويتها.
كان جون واتربوري يعترف بأن هوية السياسيين المغاربة وضعياتية، أو مرتبطة بالأوضاع وتتغير حسب الأوضاع. ولهذا، فإن الذي يتغدى معك لا يعني أنه لن يتعشى بك.
هناك سياسيون يسارعون إلى قتل أصدقائهم، أو خيانتهم، إما بدعوى أن هناك بلاداً تحتاج إلى بناء، بقتلهم أو خيانتهم، أو بدعوى أن هناك ثورة تنتظر صنعها، أو بدعوى حربٍ ما، لا بد من ربحها، أو أحياناً بدون دعوى، حتى، على حد ما كتبه الكاتب الفرنسي جيل مانغار.
تحتاج الصداقة، أيضا، بما هي شكل راق من أشكال السعادة الأخلاقية، إلى الشجاعة في قول الحق، أو في التعامل مع السلطة. كان الشيخ عبد السلام ياسين في حاجة إلى صديقه، وهذا الأخير لم يخنه، عندما أراد أن يتوجه إلى الراحل الحسن الثاني، برسالته الإسلام أو الطوفان، وتحتاج، أيضاً، إلى الوضوح في القناعة. وهناك الصداقة، أيضاً، كفضاء للسياسة، كما مثلها المرحوم عبد الله باها وعبد الإله بنكيران، فهي وحدها موضوع سياسي، دستوري أيضاً.
لم نجد بداية لهذه القضية في الواقع سوى الجملة الأولى لصاحب كتاب "الصداقة كفضاء للسياسة" في كتابه، وهنا يتعلق الأمر بإعادة التفكير في السياسة من خلال موضوعة الصداقة، ونضيف بتقديم نماذج ناجحة، ولها أثر في الحياة اليومية للناس، أنصاراً كانوا أو خصوماً.
الصداقة التي تحول السياسة إلى مكان خاص هي العلاقة المتواطئة التي يقبل فيها الصديق عمق اختلافه مع الصديق.
ختاماً، لعل أرسطو كان على صواب، عندما ربط بين السياسة والصداقة، بمقولته: الهدف الرئيسي للسياسة خلق الصداقة بين أفراد المدينة.