الشعوب العربية والتغيير.. التطلعات الباقية والاحتجاجات القائمة

16 مايو 2016

عراقيون يتظاهرون في بغداد مطالبين بحكومة تكنوقراط (13 إبريل/2016/الأناضول)

+ الخط -
تعود أجواء سنة 2011 لتسيطر على المشهد، فقد حدثت تحركات كبيرة في عدة بلدانٍ شهدت ثورات. ظنَّ قطاع ممن شاركوا في الثورات أن ثوراتهم فشلت، وأن التغيير يبدو مستحيلاً. هذا ما عزَّز الميل إلى اليأس والعودة إلى اللامبالاة، أو حتى الكفر بالثورة. ليس الحديث، هنا، عن معظم الأحزاب والنخب التي "شاركت" في الثورات الأولى، حيث التحقت بالنظم "الجديدة" أو مالأتها، وباتت معنيةً بوقف كل حراكٍ شعبي، وكل احتجاج، مكرّرة ما كان يقوله إعلام النظم نفسه: هذه احتجاجات فئوية. وأصبح شعارها هو السكينة، وكسب ما يمكن كسبه من "النظام الجديد"، أو حصر "الصراع" بنشاطها البرلماني، وبياناتها، من دون حاجةٍ إلى إضرابات أو تظاهراتٍ تجاوزها الزمن.
الأخطر كان يتمثل في يأس فئات شبابية من الطبقة الوسطى، ظنّت أن الانتصار ممكن بشكل سريع، وأن الأمر بسيط بلا تعقيد. وهذه فئات نشدت الحرية والديمقراطية بالأساس، حيث كانت تريد أن "تعبّر عن ذاتها"، من دون تعقيدات سلطوية، واحتمالات قمع وسجن، وأن يكون لها رأي في "الشأن العام". ولم تكن في وضع معيشي سيئ، مثل طبقاتٍ شعبية كثيرة، بل كانت قادرة على العيش الجيد. تعبت، وانكسر حلمها بتغيير سريع، فمالت إلى الانكفاء في حالة يائسة. لكن موجات الاحتجاج عادت تتصاعد، بعد انتظار تحقيق مطالب بسيطة، ثار الشعب من أجلها: أقصد حق العمل لملايين العاطلين عن العمل، وزياد الأجور بما يكفي العيش الكريم، ومجانية التعليم، بعد أن انهار، وبات في الغالب مخصخصاً، وتكريس كفاءته، والضمان الصحي والاجتماعي، ومطالب أخرى، مناطقية أو قطاعية أو مهنية، فقد ناورت النظم من أجل تجاهل هذه المطالب. زادت السيطرة البوليسية، واخترعت "الحرب على الإرهاب" لتحويل الصراع من كونه صراعاً طبقياً إلى كونه صراعاً "وطنياً"، أو "دولتياً"، حيث يصبح الإرهاب "الخطر الرئيسي" الذي يعلو على كل خطر ومطلب، ويصبح الحفاظ على الدولة همَّاً "شعبياً"، بعد أن ظهر ضعف الدول في ليبيا وسورية واليمن، ويكون الخوف من الانجراف إلى حرب أهلية وصراع طائفي وتدمير مجتمعي هو الذي يسكن الجموع، من خلال الضخ المركز من إعلام النظم، وترداد "النخب" الهزلية.

على العكس، ففي ظل التخويف من الإرهاب وانهيار الدولة و"المثال السوري"، جرى الإيغال في اللبرلة، حيث زادت الأسعار، وتراكمت الضرائب الجديدة على الشعب، وأصبحت الخصخصة الخيار الأخير "من أجل إنقاذ البلد". بمعنى أن السبب الذي أفضى إلى انهيار الوضع المعيشي لكتلةٍ ضخمة من الشعب، وزيادة البطالة بشكل كبير، والذي أفضى إلى انهيار التعليم، وسحب دعم الدولة الصحة والتعليم والبنية التحتية، هذا السبب هو الذي ظل النظام حريصاً على الإيغال فيه، في ظل تخويفٍ وممارسةٍ للإرهاب. فقد ثارت الطبقات الشعبية، لأن نسبة كبيرة باتت ملقاة في البطالة (30% تقريباً من القوى العاملة) ونسبة أكبر في الفقر (تصل إلى 40% و50% بالمائة). وبالتالي، لم تعد قادرة على العيش، وتراكمت مشكلات السكن والزواج والتعليم والعلاج. لهذا، أملت في تغيير النمط الاقتصادي، بما يحقق هذه المطالب، لكنها وجدت أن الوضع يسير في المنحَدَر نفسه، وأن وضعها يسوء، وينحدر وضع فئات أخرى من الطبقة الوسطى.

زعم "الحفاظ على الدولة"
كان "لعب" النظم يقوم على عنصرين من أجل التغطية على هذه المطالب أولاً، والاستمرار في لبرلةٍ تفقر الشعب. تمثل الأول في "المسار الديمقراطي"، حيث أعلنت أن الثورة انتصرت، وأن المطلوب الآن هو ترسيخ الديمقراطية عبر المسار الانتخابي، وخلاله، يمكن أن تجد المطالب حلولاً ما (كما يبرّر يسار متلبرل)، وكان هذا يعني الإعلاء من "أهمية الانتخابات" والحرية، وكونها أساس مطالب الثورة. لكن، كان الهدف هو الاستمرار بلبرلة مميتة (أو قاتلة)، والعنصر الثاني، المكمل لذلك هو تحويل الأنظار إلى "الخطر الرئيسي"، كما أشرت، و"توحيد" الشعب والنظام ضد الإرهاب، ومن أجل "الحفاظ على الدولة".
لم يموه ذلك الأمر على الشعب، على الرغم من أنه كان يتأمل، في بعض اللحظات، برئيس أو حزب. فاستمرت الاحتجاجات، على الرغم من كل القوانين التي صدرت لقمعها، وكل محاولات النظم "الكذب" على الشعب، أو تخويفه بالقوة الفعلية. ونجدها تتوسع الآن، وتتصاعد قوتها. فقد ملَّ الشعب الانتظار، ولم يعد معنياً بقبول تبرير أو تحمل تخويف، أو حتى الخوف من العنف السلطوي، حيث جرّبه سابقاً، وعرف أنه قادر على سحقه وهزيمة النظام.
في تونس، انتفضت جزيرة قرقنة، وشهدت القصرين اعتصامات، كذلك الدهماني، وتونس، تتعلق بالمعطلين، و"المفروزين أمنياً" الذين حاول النظام الالتفاف عليهم بوعودٍ كاذبة. والاحتجاجات تتصاعد في كل مكان، الأمر الذي يشير إلى وصول الأزمة إلى لحظة انفجارٍ جديد، بعد أن انتظر الشعب طويلاً من دون أن يحقق فرص العمل، وزيادة حقيقية في الأجور. وبعد أن زادت أزمات الشعب، بفعل زيادة الأسعار والضرائب، والتوسع في الخصخصة، وتحكم صندوق النقد الدولي في البنك المركزي والسياسة المالية. إننا إزاء لحظة انفجارٍ، لن يغطيها كل الحديث عن "المعجزة التونسية" في المجال الديمقراطي (كما كانت معجزة اقتصادية في زمن بن علي). فالبوليس لا زال هو ما صنعه بن علي، وإذا كان قد تراجع إلى الخلف قليلاً، فقد عاد من جديد في ممارساته نفسها، وما زالت المافيا الرأسمالية تمارس سياستها الاقتصادية كما كانت، ومن دون أي تغيير، وعلى العكس توحشت أكثر.

مصر والعراق.. وسورية
وفي مصر، تصاعدت الاحتجاجات، في الفترة الماضية، في الوسط العمالي، وفي المناطق، وكان واضحاً أن الاحتقان يتصاعد بعد "كشف المستور" في المشاريع الاقتصادية، من دون أن تحلّ، كذلك، مشكلات البطالة والفقر والتهميش. وعلى العكس، زادت كذلك نتيجة زيادة ضرائب الدولة ورفع أسعار الغاز والكهرباء والبنزين، وبالتالي، كل السلع الأخرى، والميل إلى خصخصة التعليم والصحة، ومن ثم انهيار الجنيه، الأمر الذي عنى ارتفاعاً جديداً في الأسعار والأعباء. وإذا كان قانون الخدمة المدنية قد أشعل احتجاج الموظفين (وعددهم كبير) إلى أن سقط، فإن ما حدث لجزيرتي تيران وصنافر بعد التنازل عنهما للسعودية قد "قلّب المواجع"، ليفضي إلى حالةٍ احتجاجيةٍ جديدة، ربما تكسر قانون منع التظاهر، وتفتح إلى انفجار اجتماعي كبير.
يشهد العراق استمرار الحراك الشعبي الذي يرفض الفساد، بعد أن سُرقت مداخيل العراق من النفط، وباتت الدولة عاجزةً عن دفع الرواتب أو زيادة الأجور. لكنه حراكٌ يطاول كلية العملية السياسية، التي شكلها الاحتلال الأميركي، والقائمة على أساس المحاصصة الطائفية. كما يطاول السيطرة الإيرانية على العراق، على الرغم من أنه حراكٌ يجري في المناطق التي تُصنّف شيعيةً، بعد إلهاء المنطقة "السنية" بالحرب ضد داعش، وتدميرها تحت هذه الحجة. وبالتأكيد، إن "اختراع" داعش، والحرب ضدها، بعد سنة من الاعتصام والاحتجاج في المناطق الغربية والشمالية من العراق، هدف إلى تشويه الصراع الشعبي ضد النظام المصنوع أميركياً، والمسيطر عليه إيرانياً، وفكفكته، وإغراق العراق في حروب لا تنتهي. لكن الحراك مستمر، ويمكن أن يفضي إلى إنهاء نظام أقامه الاحتلال، لمصلحة نظام شعبي.
سورية، التي تغرق في حرب متعددة المستويات، مع النظام وضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة، وحزب الله وإيران والمليشيا الطائفية العراقية، ومن كل الأصقاع، وتشهد التنافس الإقليمي والدولي الذي يؤثر في طبيعة الصراع فيها، شهدت حال تراجع الصراع المسلح انطلاق التظاهرات الشعبية ضد النظام، وضد جبهة النصرة، في المناطق التي هي خارج سيطرة النظام، وليست تحت سيطرة "داعش"، وهو ما أوضح أن هناك ثورة جرى التغطية عليها، عبر إدخال "جهاديين" وسلفية وأصوليات "شيعية"، وبتدخل دولٍ مثل إيران وروسيا. كما تحركت السويداء التي قيل إنها من "الأقليات" المؤيدة، على الرغم من أن حراكها كان، منذ بدء الثورة، لكنها تعود الآن لكي تقول إن الشعب يريد إسقاط النظام.


انفجارات محتملة
إذن، عادت موجة التظاهرات من تونس إلى مصر والعراق إلى سورية، ولبنان كذلك. ونشهد إضراب عمال النفط في الكويت. وربما نشهد انفجار الاحتجاجات في المغرب والجزائر والأردن ولبنان والسودان. موجة جديدة تذكّر بسنوات الأمل والكرامة، منذ 17/12/ 2010، ربما إلى سنة 2013. سنوات الحراك الشعبي الكبير الذي أدهش العالم، قبل أن يواجَه بالعنف، وتظهر عناصر القصور فيه، وتغرقنا النظم في العنف و"الحرب على الإرهاب"، وليقال إن الثورات فشلت.
ما يجب أن يكون واضحاً هو أن التكوين الاقتصادي، الذي سيطر في البلدان العربية كتابع للطغم الإمبريالية، بعد سياسات الخصخصة واللبرلة، هو الذي فرض إفقار غالبية الشعب وتهميشه، وأن هذا التكوين لا يمكن أن يقدّم خطوة إلى الوراء، لأنه يقوم على نهب متسارع لمافيا حاكمة ليست لديها "المرونة"، لكي تتراجع قليلاً في مهبها (على الأقل كما حدث في ثمانينيات القرن العشرين، بعد الانتفاضات التي ملأت الوطن العربي). فهي تحتاج إلى تراكم متعاظم، لكي تبقى قوةً في السوق، المحلية والعالمية. لهذا تعزّز اللبرلة، وتزيد النهب، وتحمّل الشعب عبء المديونية التي سرقتها، من خلال زيادة الضرائب، وتتحلل من كل دور للدولة، لمصلحة خصخصة شاملة، وتنهي دعم الدولة لكل القطاعات التي دعمتها، من الخبز إلى التعليم والصحة، أكثر من ذلك تغرق في خصخصة كل شيء، كل شيء. لهذا، فهي تسترسل في النهب والإفقار والتهميش. وفي المقابل، ليس من خيار لدى الشعب سوى الثورة.
هذا ما فعله، ويفعله وسيظل يفعله، إلى أن يحقّق التغيير الحقيقي، التغيير الذي يحقق مطالبةً في العمل والعيش الكريم والتعليم المجاني عالي المستوى، والعلاج المجاني والضمان الاجتماعي، والبنية التحتية المتطورة.
الثورة بدأت للتو، ويجب معرفة كيف تنتصر. لا نحتاج إلى اليأس، بل إلى الفهم والوعي والقدرة على رسم طريق التغيير، فهذا ما ينقص الثورة، ويجعلها تتعثر أو تتأخر في تحقيق انتصارها.