الشعب السوداني وحيداً

23 يناير 2019
+ الخط -
بعد شهرين من الاحتجاجات السلمية، ما زال الشعب السوداني يجد نفسه وحيدا، بلا مناصر ولا مؤيد، إلا من أبنائه البسطاء. شهران من التظاهر السلمي الذي واجهته السلطة بقمعٍ شديد أدى إلى سقوط عشرات القتلى، واعتقال أكثر من ألف من المحتجين، حسب تقديرات أحزاب المعارضة. وبدلا من عزل نظام المشير عمر البشير، والضغط عليه للتنحّي، كما تطالبه مسيرات شعبه التي تكاد تخرج بشكل شبه يومي في أكثر من مدينة سودانية، فإن من يجد نفسه معزولا ومنسيا ووحيدا هو الشعب السوداني الثائر. 
لماذا لا تخرج الشعوب العربية لمناصرة بعضها بعضا، كما تعودت أن تفعل عندما يتعلق الأمر بنصرة الشعب الفلسطيني، والتضامن مع الشعب العراقي أيام الغزو والاحتلال الأميركي؟ لماذا لا تغضب الشعوب العربية إلا عندما يكون المغتصب أجنبيا، وبالضبط إسرائيليا أو أميركيا؟ وليس المقصود هنا التشكيك في مناصرة الشعب الفلسطيني، وإن تراجعت، هي الأخرى، داخل الشارع العربي في السنوات الأخيرة، أو في التضامن مع الشعب العراقي أيام الغزو الأميركي، ونسيانه في ظل احتلال إيراني تحول إلى أمر واقع.
عندما كانت تقصف الطائرات الروسية المدن والقرى السورية طوال عامين، مخلفة قتلا ودمارا شامليْن، لم تخرج مظاهرة واحدة في عاصمة عربية، تحتج ضد هذا العدوان الذي شرعن نظام بشار الأسد الفاقد كل شرعية سياسية وأخلاقية. وطوال ثلاث سنوات ونيف من الحرب التي فرضتها السعودية والإمارات على اليمن، وأدت إلى قتل آلاف وتشريد ملايين وتخريب بلدٍ 
بكامله، لم نشهد مظاهراتٍ كبيرة في الشارع العربي، تطالب بوقف هذه الحرب العبثية، على الرغم من كل الجرائم المرتكبة والمستمرة!
هذه ظاهرة حريّة بالوقوف عندها، فهل يتعلق الأمر بموت حسّ التضامن عند الشعوب العربية فيما بينها؟ أم أن هذه الشعوب تعبت ويئست من التظاهر والتضامن من التغيير، واستسلمت لمصيرها المجهول؟ أم هو انتصار لأصحاب الدعوات الوطنية الشوفينية التي تدعو إلى انغلاق الشعوب على نفسها ومشكلاتها الداخلية داخل حدود أوطانها؟ أم هي نتيجة هيمنة عقلية نظريات المؤامرات التي لا ترى من الأخطار إلا ما هو قادم من الخارج؟ أم أن الأمر يتعلق بالخوف الذي عاد ليهيمن على الشعوب العربية، الخوف من قمع وتسلط أنظمتها إن هي ساندت أو ناصرت شعوبا أخرى ثائرة ضد الظلم والاستبداد؟ أم فقط، أن الأمر يتعلق بنسيان هذه الشعوب ما يحدث حولها وبالقرب منها، وإهمالها له، وعدم مبالاتها به، حتى وإن كان سيؤثر فيها وعليها؟
أسئلة كثيرة ومحيّرة، يطرحها هذا الغياب الفاضح في مشاعر التضامن والمناصرة في الشارع العربي التي يحتاجها الشعب السوداني الذي يتظاهر منذ شهرين أعزل وسلميا، مطالبا بحقه الطبيعي في تقرير مصيره، ورحيل نظامٍ حكمه ثلاثين عاما لم يرث منه سوى الفقر والجوع والظلم والقمع وتقسيم البلد، وفقد كل شرعية سياسية وأخلاقية منذ سنوات، عاشت خلالها البلاد ويلات الحروب والكوارث والمجاعات. وفي ظل عهده انشطرت البلاد، وأصبحت سودانيْن شماليا وجنوبيا، وتحولت الأرض التي كانت توصف بأنها "سلة غذاء العالم العربي" إلى أكبر أرضٍ يجوع ويعرى فوقها شعبها، فأية مصداقية لهذا النظام الذي ما زال يطالب شعبه بمزيدٍ من الوقت الإضافي للإصلاح؟!
طوال شهرين من التظاهر، لم تجد ثورة الشعب السوداني من يناصرها في شوارع العواصم العربية سوى بضع عشراتٍ من المتظاهرين في الرباط، وصفحة على "فيسبوك" أطلقها نشطاء تونسيون، وبعض بيانات التضامن الخجولة، وأغلبها صادرة عن أحزاب يسارية، وبعضها
 شيوعية، عربية. فأين غابت الأحزاب والحركات الإسلامية؟ ويطرح صمت التيارات المحسوبة على الإسلام السياسي التي عانت هي نفسها من قمع أنظمتها، أكثر من تساؤل بشأن سياسة الكيل بمكيالين التي تنهجها في تصنيف الظلم والمظالم، والاستبداد والمستبدين. أليس نظام البشير سيئا كما نظام بشار الأسد الذي دعت بعض التيارات الإسلامية، إبان اندلاع الثورة السورية، إلى حمل السلاح ضده وبرّرته وحللته وشرعنته؟! مع الأسف، أغلب هذه التيارات حالت دونها، ودون مناصرة الشعب السوداني، غشاوة الإيديولوجيات، وأغلبها ما زال يعتبر بأن نظام البشير، والذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، ذو "نفحةٍ" إسلامية، فقط لأنه كان مدعوما عند قيامه من "الجبهة الإسلامية القوميةّ" بقيادة زعيمها الراحل حسن الترابي، الذي سيموت وهو معارض للحكم، مغضوب عليه من هذا الحكم.
ليس التضامن العربي الفعلي هو الذي تعبر عنه بيانات جامعةٍ عربيةٍ بلا مصداقية، وإنما هو تضامن الشعوب الذي تعبر عنه قواها الحية، وثورة الشعب السوداني الحالية اختبار حقيقي لهذا التضامن، وللقوى التي يُفترض أنها الأقرب إلى نبض شعوبها.
الشعب السوداني الثائر في صمت، والمتظاهر سلميا، والمحتج حضاريا، دونه والتضامن العربي بياضٌ من الصمت المريب، ومساحاتٌ من اللامبالاة القاتلة، وشعورٌ كبير بالنسيان بطعم الخذلان.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).