يحبس الأوروبيون أنفاسهم الاقتصادية لما ستؤول إليه "العقوبات الثانوية"، وهو ما وضحته وزارة الخارجية الأميركية، يوم 8 مايو/أيار الحالي، بالتزامن مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من خطة العمل الشاملة المشتركة، والمعروفة اختصاراً بـ"JCPOA" أو الاتفاق النووي الموقّع مع إيران بمشاركة الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن الدولي وألمانيا، والذي يطلق عليه (5+1).
وبالرغم من أن التصريحات السياسية الأوروبية، حول التمسك بالاتفاق مع إيران، إلا أن الشركات الغربية باتت تخشى الكثير من تأثر مصالحها في السوق الإيراني المقدر بإجمالي نحو 400 مليار دولار، مقابل سوق أميركي ضخم، وتخشى أيضاً من أن يكون وراء الأكمة ما وراءها في الحرب التجارية على ضفتي الأطلسي.
ومنذ توقيع الاتفاق في يوليو/ تموز 2015، وجدت شركات وبنوك أوروبية فرصتها في السوق الإيراني، خصوصا أن بعضها عانى في الأصل من أزمة اقتصادية عالمية (منذ 2008)، مرور نحو عام، آنذاك، على خطة عقاب اقتصادي لروسيا، بعد التدخل في أوكرانيا، إذ اضطرت شركات عدة إلى وقف تعاملاتها، خشية من "العقوبات الثانوية" التي تطاولها.
وبعد أن بنت معظمها خطط طويلة المدى، في "سوق إيراني واعد يتكون من 80 مليون مستهلك"، تجد هذه الشركات الأوروبية نفسها في وضع لا تحسد عليه. ويشمل ذلك مصارف، وقطاعات إنتاجية تعتمد على التصدير، والاستثمار. فالآمال الكبيرة دفعت الصناعات الغربية، بكل المستويات، من الدوائية والزراعية إلى التقنية والصناعات الثقيلة، للتسابق إلى ذلك السوق بعروض مغرية، بعد رفع العقوبات في مجلس الأمن.
وحتى قبل مرحلة "ثورة الخميني" في 1979، شكّل السوق الإيراني حالة جذب في منطقة الخليج لشركات أوروبية شمالية، لم تترك صغيرة ولا كبيرة لم تصدرها إلى هذا السوق، بل إن الشركات الدنماركية، بعد سقوط الشاه، اعتبرت تصديرها للجبنة البيضاء أهم بكثير من قضايا حقوقية في تلك المرحلة، ما أثار عاصفة وجدلاً حتى توقفت، لتعود تدريجياً في مراحل ما سمي "الانفتاح الإيراني"، بعد أن أصبحت أكبر شركات إنتاج الألبان والأجبان، آرلا، جزءاً من السوق الخليجي العربي الاستهلاكي.
وعادت في 2016 لتبني خطوط إنتاج مخصصة للسوق الإيراني، إضافة إلى سوق الملاحة، الذي تهيمن عليه شركة ميرسك، التي بدأت أيضا ترفع صوتها عالياً اليوم، بعد تأثرها بسبب الأزمة الخليجية وحصار قطر، للتحذير من خسائر أخرى تطاولها كبقية الشركات العابرة للحدود.
وكغيرها، راحت الشركات الألمانية والفرنسية تبني أيضا أحلاماً كبيرة بالمليارات. وسط مراهنات بنيت على خطط تستمر لسنوات، ولم يمض عليها سوى بضعة أعوام منذ البدء برفع تدريجي للعقوبات. وأهم القطاعات التي وجدت الشركات الأوروبية فرصتها في السوق الإيراني، شركات النفط والغاز، وتصدير معدات خاصة بالقطاعين، وهي التي كانت ممنوعة، إلى جانب غيرها من القطاعات.
وتبدو المشكلة الحقيقية التي تواجه الشركات الأوروبية، كأهم معيق للتعامل التجاري مع الشركات الإيرانية، تتعلق بالحظر المالي.
فالشركات الأوروبية، خصوصاً مع فرض نظام محاسبة وشفافية، لا يمكنها التعامل عبر نظام تحويلات يضعها تحت الشبهة. وهي ستكون مضطرة إلى الالتزام بالحظر الأميركي، طالما أن التعامل الدولاري هو السائد. وحسب ما جاء على لسان مستشار الأمن القومي، جون بولتون، فإن أمام الشركات الأوروبية "بضعة أشهر لتصفية أعمالها" مع أو في إيران، قبل بدء الحظر في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وبدأت منذ الآن تلوح في الأفق خسائر كبيرة بالمليارات لشركات ضخمة عالمياً، كشركتي بوينغ وإيرباص في مجال الطيران المدني وقطع الغيار، هذا بالإضافة إلى شركات صناعة السيارات، سواء الفرنسية أو الألمانية والسويدية، وحتى اليابانية والبرازيلية من خارج أوروبا.
وتأتي هذه "العقوبات الثانوية" لتطاول معظم التعاملات التجارية مع إيران، في الوقت الذي يعاني فيه المصدرون الأوربيون، خصوصا في قطاع الزراعة، من العقوبات المفروضة على روسيا، والشكوى الدائمة لصغار ومتوسطي هذا القطاع تحديدا من غياب سياسة "دعم وتعويض" أوروبي للخسائر.