الشرق الأوسط بعد التطبيع الإسرائيلي الإماراتي
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
ربما يمثّل إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 13 أغسطس/ آب الماضي، عن "اتفاق أبراهام" بين الطرفين، الإسرائيلي والإماراتي، ثم إعلانه التطبيع الإسرائيلي البحريني في 11 سبتمبر/ أيلول الجاري، فضلاً عن تخفيض أعداد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، ثلاثة من أكبر إنجازاته "الرمزية" في مجال السياسة الخارجية التي يأمل، عبر توظيفها انتخابياً، أن تقيه من عثراته الداخلية الكثيرة، خصوصاً بعد فشله في التعامل مع تداعيات جائحة كورونا على بلاده، صحياً واقتصادياً. وبغض النظر عن التوظيفات الدعائية/ الانتخابية لهذه التطورات، ثمّة خمس ملاحظات على النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، بعد تطبيع كلّ من الإمارات والبحرين، مع إسرائيل.
الأولى، أنه لا يمكن فصل "اتفاق أبراهام"، عن "صفقة القرن" وسياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط إجمالاً، خصوصاً مسعى واشنطن إلى إنشاء "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي" (Middle East Strategic Alliance)، الذي يُعتبر من ثمار القمة العربية الإسلامية الأميركية في الرياض في 21 مايو/ أيار 2017. وفضلاً عن تنفيذ ترامب أغلب وعوده بدعم إسرائيل، نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة في مايو/ أيار 2018، وتوسيع دائرة التطبيع الدبلوماسي مع إسرائيل، فقد اتخذ خطواتٍ عديدة في مسار "الحل الإقليمي" لقضية فلسطين؛ أي شرعنة وضع إسرائيل خليجياً وعربياً، ومنحها مزيداً من المزايا الاستراتيجية والاقتصادية، من دون تقديم أية تنازلات، مع تجاهل الحقوق الفلسطينية وتهميشها، بالتوازي مع تكثيف سياسات عزل القوتيْن الإقليميتيْن المنافستيْن، إيران وتركيا. وعلى الرغم من نشاط الدبلوماسية الأميركية، في توظيف هذه التطوّرات، لتعزيز حظوظ الرئيس ترامب الانتخابية، في مواجهة المرشح الديمقراطي للرئاسة، جو بايدين، فإن حصاد تلك الدبلوماسية لا يزال "محدوداً"، كما اتضح من جولة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، (على إسرائيل والسودان والبحرين والإمارات وسلطنة عُمان) أواخر أغسطس/ آب الماضي، والتي تلتها جولة جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب وكبير مستشاريه، (على إسرائيل والإمارات والبحرين وقطر والسعودية). بيد أن ذلك لا يعني توقف ضغوط واشنطن لتوسيع التطبيع، وربما نجاحها أيضاً في بعض الحالات، مثل إعلان ترامب في 4 سبتمبر/ أيلول، نجاحه في إقناع صربيا بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة، وأن كوسوفو قرّرت تدشين علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ثم إعلانه التطبيع الإسرائيلي البحريني.
تتعلق الملاحظة الثانية بمسعى إسرائيل إلى زيادة قدراتها في توظيف حالات "الانكشاف الخليجي"، و"الضعف العربي المزمن"، و"السيولة الإقليمية"، لتوطيد مكانتها الإقليمية، ومد نفوذها ونشاطها الأمني والاستخباري إلى الخليج العربي واليمن، خصوصاً أرخبيل سقطرى وباب المندب، مع تحقيق مكاسب اقتصادية من جذب الاستثمارات الإماراتية، ومن ثم دعم مكانة إسرائيل، في الصراع على قيادة المنطقة ضد إيران وتركيا، ضمن عملية إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، الجارية حالياً، بحيث تكون إسرائيل القوة الإقليمية المهيمنة، ما قد يدفع إيران إلى تقديم العامل الأمني على الاقتصادي في سياستها تجاه أبوظبي، وربما الرد، عبر أدوات مختلفة، ليس آخرها المناورات الإيرانية الضخمة، في سبتمبر/ أيلول الجاري، وحملت شعار "أمن دائم في ظل اقتدار دفاعي".
تسعى إسرائيل إلى زيادة قدراتها في توظيف حالات "الانكشاف الخليجي"، و"الضعف العربي المزمن"، و"السيولة الإقليمية"، لتوطيد مكانتها الإقليمية
الملاحظة الثالثة رفض جامعة الدول العربية الطلب الفلسطيني إدانة تطبيع أبوظبي مع إسرائيل، ما يضيف "وهناً على وهن" المواقف الرسمية العربية، ويزيد من تآكل البعد العربي الرسمي في قضية فلسطين، لمصلحة إبراز هيمنة العامل الدولي، خصوصاً الأميركي/ الإسرائيلي على مسارات القضية التي تكاد تتحول إلى صراع بين العامل الذاتي الفلسطيني (يحتاج الوحدة الوطنية، والحوار، وتفعيل المؤسسات، وصولاً إلى إطلاق انتفاضة ثالثة شعبية شاملة)، في مواجهة نظام "أبارتهايد عنصري" مدعوم أميركياً ودولياً. والأخطر من ذلك غياب رؤية استراتيجية عربية في إدارة العلاقة مع إسرائيل، وهذا ما يفسّر أنها المستفيد الأكبر دائماً، من عملية التسوية/ التطبيع معها، منذ اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978.
وحتى في حالة مصر، أكبر الدول العربية، حققت إسرائيل، ولا تزال، "مزايا نسبيّة" من عملية التسوية أكثر من القاهرة، سواء في الحصول على مساعداتٍ اقتصادية وعسكرية، ناهيك عن الدعم السياسي الأميركي، أم "التأكيد المتجدّد" على محورية الدور الإسرائيلي في استراتيجية واشنطن تجاه الشرق الأوسط، وأولوية التفوق العسكري الإسرائيلي على الدول العربية مجتمعة، أو قدرة إسرائيل على استباحة "أمن سيناء" بشكل متكرّر، تحت دعاوى واهية تتعلق بالأمن الإسرائيلي، ولا علاقة لها بمصالح الشعب المصري الذي تتم سرقة ثرواته من الغاز في مياه شرق المتوسط جهاراً نهاراً، عبر تحالفات القاهرة مع إسرائيل واليونان وقبرص.
تتعلق الملاحظة الرابعة بموقف السعودية من التطبيع؛ الذي يتلخص في ثلاثة ملامح؛ أولها تأييد الرياض سياسات أبوظبي والمنامة إجمالاً، خصوصاً بعد استلام محمد بن سلمان ولاية العهد في يونيو/ حزيران 2017، وصولاً إلى تراجع مواقف السعودية من فلسطين، وتقاربها المتزايد مع إسرائيل، مع سيادة أفكار "نيوليبرالية"، في رؤية 2030 ومشروع نيوم. وثانيها أن هناك بوادر "تفاهمات أمنية" واقعية بين السعودية وإسرائيل، في مواجهة إيران وحلفائها في الشرق الأوسط، بغض النظر عن غياب العلاقة الدبلوماسية العلنية بين الرياض وتل أبيب. وثالثها أن سياسة ترامب الخارجية نجحت في إعادة تشغيل محور "الإعتدال العربي" مع تغيير عنصرين؛ أحدهما إخراج الأردن والسلطة الفلسطينية من المعادلات الإقليمية، كون "صفقة القرن" تتم على حسابهما. والآخر دعم إسرائيل في قيادتها المنطقة، مع ضرب المشروع الإقليمي لإيران وحصار حلفائها من المليشيات، عبر سياسة العقوبات و"الضغط الأقصى" التي بلغت حدّاً متقدماً، في اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني.
بوادر "تفاهمات أمنية" واقعية بين السعودية وإسرائيل، في مواجهة إيران وحلفائها في الشرق الأوسط
وإضافة إلى فتح السعودية مجالها الجوي أمام رحلات شركات الطيران الإسرائيلية، مع تزايد طرح موضوع التطبيع في الصحافة السعودية، في ظل ما هو معلوم للكافة من صعوبة أن يتحدث الصحافيون والإعلاميون بذلك، من دون ضوء أخضر من الحكومة السعودية. وستتزايد ضغوط واشنطن على الرياض في الأسابيع المقبلة، لكي تنخرط بصورة أكبر في التطبيع العلني، بسبب مكانة السعودية عربياً وإسلامياً، التي ستخدم ترامب في معركته الانتخابية.
وتتعلق الملاحظة الأخيرة بالدور الإماراتي في الشرق الأوسط بعد التطبيع. وعلى الرغم من احتمال استفادتها، "آنياً"، من علاقتها بإسرائيل، فالمؤكد أنها تبقى دولة صغيرة (Small State)، بمفاهيم علم العلاقات الدولية، لكنها تتصرّف ب"طموح إقليمي" يفوق قدراتها التي تنحصر بالمال السياسي، الذي يبقى تأثيره مؤقتاً، ولا يستطيع تعويض غياب عناصر القوة الصلدة عن هذا البلد.
أما نية إدارة ترامب، (بتشجيع من صهره ومستشاره جاريد كوشنر) بيع الإمارات مقاتلات F-35 الأميركية، كما نقلت صحيفة نيويورك تايمز في 19/8/2020، فسيبقى محكوماً بموافقة لجان الكونغرس عليه (المؤيدة لإسرائيل)، فضلاً عن التعويض الكبير، الذي سيطلبه الإسرائيليون، لقاء موافقتهم. علماً أن ثمة أصواتاً من الحزب الديمقراطي، كما كتبت ديبي واسرمان شولتز، في ميامي هيرالد (5/9/2020) تعترض على إمكانية تزويد إدارة ترامب الإمارات بهذه المقاتلات، "لأن ذلك يعرض أمن إسرائيل للخطر، ويهدّد تفوقها النوعي على دول المنطقة"، فضلاً عن إمكانية تسرّب أسرار هذه المقاتلة إلى الإيرانيين الذين يجوبون الإمارات طولاً وعرضاً.
وضع الإمارات كل بيضها في سلة ترامب ونتنياهو، على الرغم من أزماتهما الداخلية المتصاعدة، قد يؤدي، في المديين، المتوسط والبعيد، إلى استنزاف قدراتها المالية
انخراط الإمارات في صراعات إقليمية، في اليمن وليبيا وسورية وشرق المتوسط، وحصار قطر، ودعم النظام المصري، والرغبة في السيطرة على عدة مؤانئ مهمة... إلخ، ناهيك عن حشر نفسها في عداءٍ معلن مع أنقرة وطهران، ووضع كل بيضها، مجدّداً، في سلة ترامب ونتنياهو، على الرغم من أزماتهما الداخلية المتصاعدة، قد يؤدي، في المديين، المتوسط والبعيد، إلى استنزاف قدرات الإمارات المالية، وربما التأثير على أمنها واستمرارها واقتصادها وتماسكها دولة اتحادية، واحتمال تحويلها إلى ساحة صراع بين إيران وإسرائيل، سيما بعد تصريح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في 6 سبتمبر/ أيلول، أن الإمارات وإسرائيل، توصلتا إلى اتفاقٍ لتشكيل تحالف ضد إيران، لحماية الأراضي الأميركية والشرق الأوسط.
باختصار، أوجد الاتفاق الأميركي - الإسرائيلي مع كل من الإمارات والبحرين زخماً "مؤقتاً" في العالم العربي والشرق الأوسط، لكنه يستهدف إيران، ويزيد التوتر الأمني معها، وفي الخليج، فضلاً عن استعداء حركات المقاومة الفلسطينية التي لا تزال تتذكّر جريمة اغتيال القيادي في حركة حماس، محمود المبحوح، في دبي عام 2010.
زخمٌ سيبقى محكوماً بأهداف الثنائي واشنطن - تل أبيب. ولذلك قد لا تجني منه أبوظبي والمنامة غير "قبض الريح"، تماماً مثلما حدث في اتفاقيات التسوية السابقة، في حالات مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تثبت التوظيف الإسرائيلي للتسوية والتطبيع ضمن رؤية استراتيجية، لكي تصل إلى وضع القوة الإقليمية المهيمنة، على حساب العرب والأتراك والإيرانيين دائماً.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.