13 أكتوبر 2024
الشرعية والمشروعية في الأنظمة العربية
حسان الأسود
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
كانت إحدى أكبر أزمات الأنظمة الحاكمة في المنطقة، خاصة منها الأنظمة العربية، فقدانها الشرعية الشعبية والدستورية في استلام السلطة، وتبوّؤ سدّة الحكم، وقد أثّر هذا بشكل كبير على أدائها وسلوكيّات حكّامها، بسبب هذا الشعور الدائم بعقدة نقص الشرعيّة، وسبّب دوماً أزمات خانقة لهذه البلدان ولشعوبها، على حدّ سواء.
ليس من المبالغة القول إن جميع الأنظمة الجمهورية جاءت بحكّامها بانقلابات عسكرية على عسكر مثلهم، أو على سلطات ملكية أو ديمقراطية منتخبة. كذلك جاءت أغلب الممالك والإمارات ضمن إطار عمليّات التغلّب، أو التحالف مع المستعمر الغربي، بعد انحسار سيطرة الدولة العثمانيّة، إلّا ما ندر.
ستبقى هذه العقدة متحكّمة في سلوكيات الحكّام المتسلّطين، بدرجة أو بأخرى، فهم سيتصرفون طوال فترات حكمهم كغرباء مارقين، وقد أثبت كثيرون منهم أنهم أشدّ خطراً على سلامة البلاد وأهلها من أي مستعمر أو محتل، ولنا في معمر القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد أمثلة رهيبة بالغة الدقّة.
قيل قديماً إن "الطغاة يجلبون الغزاة"، وبغض النظر عن صحّة نسبتها لابن خلدون من عدمها، فإنها مقولة واقعيّة تؤيدها شواهدُ التاريخ، فلطالما دعم المستعمرونَ الطغاةَ، لأنهم يحمون
مصالحهم، ولنا في دعم الانقلاب على سيلفادور الليندي في تشيلي ومحمد مُصدّق في إيران ودوبتشيك في يوغوسلافيا وحسني الزعيم وخلفائه في سورية وآخرهم بشار الأسد أكبرُ الأمثلة.
عندما يستولي الطغاة على الحكم بالتغلُّب، وبدون شرعية دستورية، يكونون في أمسّ الحاجة لغطاء ما، ولسند يتّكئون عليه. يأتي السند في هذه الحالة من الخارج، حيث تقاطعُ المصالحِ، لا من الداخل، حيث السندُ الحقيقي المتمثّل في القبول الشعبي. مثالا على ذلك، توريثَ الحكم الجمهوري في سورية قبل ثمانية عشر عاما، فقد سارعت أميركا إلى إرسال وزيرة خارجيتها، مادلين أولبرايت، لوضع شروط أميركا للموافقة على التوريث، وكانت حجّة الزيارة التعزية في وفاة المورّث حافظ. لقد أشادت وقتها أولبرايت بالانتقال الهادئ والسلس للسلطة في سورية (!).
لذلك يكون من الطبيعي أن يلتفت الطغاةُ عن مصالح الناس واحتياجاتهم، ما دامت شرعيتهم لم تأتِ منهم، بل على العكس والتضادّ مع تطلّعاتهم، وعلى الرغم من إرادتهم. وهنا يكون الدعم الخارجي مشروطاً ومرتبطاً. ومن حيثُ النتيجة، مؤدياً إلى الابتعاد عن الناس، ما يزيد باستمرار من الفُرقة بين الحاكم والمحكوم، وبين مصالح الطرفين.
ويميّز مركز راشيل كوري لحقوق الإنسان بين الشرعية والمشروعيّة، ويورد لكل منهما تعريفاً مختلفاً عن الآخر: "الشرعية تعني في المصطلح السياسي مدى الرضا المتبادَل بين السلطة والحاكم والشعب، ويقاس ذلك بمدى انحياز السلطة الحاكمة لأحلام ومطامح الشعب، ويمثل الشعبَ المجلسُ المنتخبُ انتخابًا حرًّا ديمقراطيًّا". و"المشروعية تعني مدى التزام مؤسسات الدولة والحكومة بالقانون والدستور، فمن خرج عن القانون والدستور صار محظوراً، ومن وافق القانون صار مشروعًا". وبذلك، يمكن القول إنه توجد عدّة أشكال متداخلة بين الشرعية والمشروعية.
سلطة تتمتع بالشرعية والمشروعية، كالحكومات المشكّلة ديمقراطياً والحائزة على قبول الشعب، نتيجة اقترابها من مصالحه (السويد، النرويج، فرنسا، ألمانيا..). سلطة شرعية، لكنها لا تتمتع بالمشروعية، كالحكومات المشكّلة ديمقراطياً لكنها غير مقبولة من الشعب لابتعادها عن مصالحه (لبنان، روسيا، إيران..). سلطة غير شرعية، لكنها تتمتع بالمشروعية، وهي السلطة الثورية التي جاءت بها الجماهير عقب ثورة شعبية ما (كوبا وإيران بعد ثورتيهما مباشرة). سلطة غير شرعية، ولا تتمتع بالمشروعية في الوقت نفسه، مثل الحكومات الانقلابية التي يرفضها الشعب. ويفيد تشريح بُنى أنظمة الحكم العربية بأنها في الأغلب الأعم من الفئة الرابعة التي تفتقد الشرعية والمشروعية في آن معاً.
وتعطي هذه المقدّمات القانونية والتاريخية توصيفاً للحالة الدستورية والسياسية السائدة في مجتمعات دول الربيع العربي، عشيّة اندلاع الثورات الشعبيّة ضدّ أنظمة الحكم فيها، فقد كانت هذه المجتمعات تقترب من الهاوية شيئاً فشيئاً، فحسب ما ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 "كانت حالُ الدول العربية قبل عدة عقود أفضل مما هي عليه الآن، فقد كانت الدول العربية في عام 2007 أقل تصنيعاً منها في عام 1970، وذلك بسبب ما شهدته من تباطؤ وانكماش في مجال التصنيع، طيلة العقود الخمسة الفائتة، والاهتمام الزائد بالبنى الأساسية والعقارات والقطاع الخدمي والمالي". و"تؤكد الكثيرُ من المراجع الاقتصادية على أنّ النمو الاقتصادي في مختلف الدول العربية قد اتسم بالركود شبه الكامل على مدى عقدين ونصف بعد عام 1980، ولم يتجاوز نموّ نصيب الفرد الحقيقي من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد العربية 0.5% سنويا طوال الفترة نفسها". و"قد ساعد فشل التنمية العربية على ظهور ظلال أزمات اجتماعية وأمنية وسياسية مستعصية في كثير من الدول العربية، أثرت على
عرقلة التنمية والتحوّل الديموقراطي وانتشار ظواهر التأزم والاحتقان وعدم استقرار الأمن الاجتماعي، كما ساعد فشل التنمية أيضا على تفشي البطالة وزيادة رقعة الفقر والجوع ونقص التغذية في الدول العربية، حيث يلاحظ أن نسبة البطالة فيها من أعلى النسب في العالم، تتراوح بين 14% و20% من القوى العاملة العربية، كما تعتبر الدول العربية بالنسبة للفقر ضمن المناطق الأكثر فقراً في العالم، حيث تشير بيانات البنك الدولي المتاحة إلى أن نحو 20.37% من المواطنين العرب يعيشون دون خط الفقر الدولي المحدّد بدولارين يوميا، أي أن نحو 65 مليون عربي عاجزون عن امتلاك القدرات البشرية اللازمة لضمان متطلّبات الرفاه الإنساني، إضافة إلى أن نسبة الفقر المدقع لكل الدول العربية قد بلغت بين العامين 2000 و2005 نحو 18.3%، وهي أعلى من النسبة التي سجلت في تسعينيات القرن الماضي، حيث بلغت نحو 17.6%".
لا بد أن يؤدي هذا الفشل البنيوي في إدارة البلدان المحكومة بالاستبداد، وبالضرورة، إلى انقسامات مجتمعية أفقيّة وعموديّة، تدمّر أسس هذه المجتمعات الفوقيّة، كما التحتية أيضاً. وسيؤدي عدم قدرة الأنظمة الفاقدة للشرعية على تحديث بناها السياسية إلى كوارث مستدامة على مجمل البنى المجتمعيّة.
يقول ألن تورين إنّ "التنمية السياسية بوصفها تجسّد قدرة النظام السياسي يجب أن تتعامل أو تتكيّف مع خمس مشكلات أساسيّة هي: الشرعية، الهويّة، المشاركة، القدرة على التغلغل والتوزيع". و"بذلك يكون التحديث السياسي هو الانتقال من نظام سياسي ديكتاتوري إلى نظام سياسي دستوري ديمقراطي مجتمعي، وهو أمرٌ لا يخلو من صعوبات".
وقد أثبتت ثورات الربيع العربي كم هي هزيلة هذه الأنظمة الفاقدة للشرعية والمشروعية في آن معاً، فما كان أسهل عليها من الارتماء في أحضان المستعمرين والطامعين، إلى الاستقواء على الشعوب الثائرة المطالبة بالتغيير والتحديث السياسي، فمن إسرائيل إلى إيران إلى تركيا وروسيا وأميركا وأوروبا.. لم تبخل هذه الأنظمة بتوزيع المنافع وتقسيم البلاد في سبيل الحفاظ على كرسي السلطة.
ليس من المبالغة القول إن جميع الأنظمة الجمهورية جاءت بحكّامها بانقلابات عسكرية على عسكر مثلهم، أو على سلطات ملكية أو ديمقراطية منتخبة. كذلك جاءت أغلب الممالك والإمارات ضمن إطار عمليّات التغلّب، أو التحالف مع المستعمر الغربي، بعد انحسار سيطرة الدولة العثمانيّة، إلّا ما ندر.
ستبقى هذه العقدة متحكّمة في سلوكيات الحكّام المتسلّطين، بدرجة أو بأخرى، فهم سيتصرفون طوال فترات حكمهم كغرباء مارقين، وقد أثبت كثيرون منهم أنهم أشدّ خطراً على سلامة البلاد وأهلها من أي مستعمر أو محتل، ولنا في معمر القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد أمثلة رهيبة بالغة الدقّة.
قيل قديماً إن "الطغاة يجلبون الغزاة"، وبغض النظر عن صحّة نسبتها لابن خلدون من عدمها، فإنها مقولة واقعيّة تؤيدها شواهدُ التاريخ، فلطالما دعم المستعمرونَ الطغاةَ، لأنهم يحمون
عندما يستولي الطغاة على الحكم بالتغلُّب، وبدون شرعية دستورية، يكونون في أمسّ الحاجة لغطاء ما، ولسند يتّكئون عليه. يأتي السند في هذه الحالة من الخارج، حيث تقاطعُ المصالحِ، لا من الداخل، حيث السندُ الحقيقي المتمثّل في القبول الشعبي. مثالا على ذلك، توريثَ الحكم الجمهوري في سورية قبل ثمانية عشر عاما، فقد سارعت أميركا إلى إرسال وزيرة خارجيتها، مادلين أولبرايت، لوضع شروط أميركا للموافقة على التوريث، وكانت حجّة الزيارة التعزية في وفاة المورّث حافظ. لقد أشادت وقتها أولبرايت بالانتقال الهادئ والسلس للسلطة في سورية (!).
لذلك يكون من الطبيعي أن يلتفت الطغاةُ عن مصالح الناس واحتياجاتهم، ما دامت شرعيتهم لم تأتِ منهم، بل على العكس والتضادّ مع تطلّعاتهم، وعلى الرغم من إرادتهم. وهنا يكون الدعم الخارجي مشروطاً ومرتبطاً. ومن حيثُ النتيجة، مؤدياً إلى الابتعاد عن الناس، ما يزيد باستمرار من الفُرقة بين الحاكم والمحكوم، وبين مصالح الطرفين.
ويميّز مركز راشيل كوري لحقوق الإنسان بين الشرعية والمشروعيّة، ويورد لكل منهما تعريفاً مختلفاً عن الآخر: "الشرعية تعني في المصطلح السياسي مدى الرضا المتبادَل بين السلطة والحاكم والشعب، ويقاس ذلك بمدى انحياز السلطة الحاكمة لأحلام ومطامح الشعب، ويمثل الشعبَ المجلسُ المنتخبُ انتخابًا حرًّا ديمقراطيًّا". و"المشروعية تعني مدى التزام مؤسسات الدولة والحكومة بالقانون والدستور، فمن خرج عن القانون والدستور صار محظوراً، ومن وافق القانون صار مشروعًا". وبذلك، يمكن القول إنه توجد عدّة أشكال متداخلة بين الشرعية والمشروعية.
سلطة تتمتع بالشرعية والمشروعية، كالحكومات المشكّلة ديمقراطياً والحائزة على قبول الشعب، نتيجة اقترابها من مصالحه (السويد، النرويج، فرنسا، ألمانيا..). سلطة شرعية، لكنها لا تتمتع بالمشروعية، كالحكومات المشكّلة ديمقراطياً لكنها غير مقبولة من الشعب لابتعادها عن مصالحه (لبنان، روسيا، إيران..). سلطة غير شرعية، لكنها تتمتع بالمشروعية، وهي السلطة الثورية التي جاءت بها الجماهير عقب ثورة شعبية ما (كوبا وإيران بعد ثورتيهما مباشرة). سلطة غير شرعية، ولا تتمتع بالمشروعية في الوقت نفسه، مثل الحكومات الانقلابية التي يرفضها الشعب. ويفيد تشريح بُنى أنظمة الحكم العربية بأنها في الأغلب الأعم من الفئة الرابعة التي تفتقد الشرعية والمشروعية في آن معاً.
وتعطي هذه المقدّمات القانونية والتاريخية توصيفاً للحالة الدستورية والسياسية السائدة في مجتمعات دول الربيع العربي، عشيّة اندلاع الثورات الشعبيّة ضدّ أنظمة الحكم فيها، فقد كانت هذه المجتمعات تقترب من الهاوية شيئاً فشيئاً، فحسب ما ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 "كانت حالُ الدول العربية قبل عدة عقود أفضل مما هي عليه الآن، فقد كانت الدول العربية في عام 2007 أقل تصنيعاً منها في عام 1970، وذلك بسبب ما شهدته من تباطؤ وانكماش في مجال التصنيع، طيلة العقود الخمسة الفائتة، والاهتمام الزائد بالبنى الأساسية والعقارات والقطاع الخدمي والمالي". و"تؤكد الكثيرُ من المراجع الاقتصادية على أنّ النمو الاقتصادي في مختلف الدول العربية قد اتسم بالركود شبه الكامل على مدى عقدين ونصف بعد عام 1980، ولم يتجاوز نموّ نصيب الفرد الحقيقي من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد العربية 0.5% سنويا طوال الفترة نفسها". و"قد ساعد فشل التنمية العربية على ظهور ظلال أزمات اجتماعية وأمنية وسياسية مستعصية في كثير من الدول العربية، أثرت على
لا بد أن يؤدي هذا الفشل البنيوي في إدارة البلدان المحكومة بالاستبداد، وبالضرورة، إلى انقسامات مجتمعية أفقيّة وعموديّة، تدمّر أسس هذه المجتمعات الفوقيّة، كما التحتية أيضاً. وسيؤدي عدم قدرة الأنظمة الفاقدة للشرعية على تحديث بناها السياسية إلى كوارث مستدامة على مجمل البنى المجتمعيّة.
يقول ألن تورين إنّ "التنمية السياسية بوصفها تجسّد قدرة النظام السياسي يجب أن تتعامل أو تتكيّف مع خمس مشكلات أساسيّة هي: الشرعية، الهويّة، المشاركة، القدرة على التغلغل والتوزيع". و"بذلك يكون التحديث السياسي هو الانتقال من نظام سياسي ديكتاتوري إلى نظام سياسي دستوري ديمقراطي مجتمعي، وهو أمرٌ لا يخلو من صعوبات".
وقد أثبتت ثورات الربيع العربي كم هي هزيلة هذه الأنظمة الفاقدة للشرعية والمشروعية في آن معاً، فما كان أسهل عليها من الارتماء في أحضان المستعمرين والطامعين، إلى الاستقواء على الشعوب الثائرة المطالبة بالتغيير والتحديث السياسي، فمن إسرائيل إلى إيران إلى تركيا وروسيا وأميركا وأوروبا.. لم تبخل هذه الأنظمة بتوزيع المنافع وتقسيم البلاد في سبيل الحفاظ على كرسي السلطة.
دلالات
حسان الأسود
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
حسان الأسود
مقالات أخرى
13 سبتمبر 2024
23 اغسطس 2024
11 اغسطس 2024