الشرعية الانقلابية.. حديث الإفك والنفاق

17 ابريل 2015
+ الخط -
(هل من المعقول أن يحدث انقلاب عسكري على رئيس شرعي منتخب؟ نحن لا يمكن أن نسكت على انقلاب على الإرادة الشعبية، لا يمكن أن نرضى بهذه الخيانة من قوى الثورة المضادة. كيف يسمح بعودة الرئيس المخلوع ورجاله ونظامه ضد الثورة التي بذل الشعب والشباب فيها دماءه الغالية...).
أعرف أن هذا كلام لا جديد فيه، لأكثر من عامين ظل يردده في مصر وحولها هؤلاء الذين احتفظوا باحترامهم المبادئ والقيم التي آمنوا بها، وتمسكوا بالشرعية مبدأً قبل أن تكون أشخاصاً أو مؤسسات أو وقائع، ورفضوا عملية السطو على إرادة الشعب وخداعه وإرهابه بقوة السلاح... وساعتها، وطول العامين، لم يجدوا من مجرمي الانقلاب وأبواقه إلا كل هجوم وتطاول وبذاءة، ولم يروا من متحذلقي الدهاء السياسي وأدعياء احتكار الثورية إلا التهكم والتملل والامتهان، ولكم سمعوا من بهاليل الانقلابيين ومهابيلهم عبارات السخرية والاستهزاء والسباب.
لكن، العجب العجاب أن هذا الكلام ليس صادراً عن أنصار مبدأ الشرعية، وليس نابعا إلا من جوقة الانقلابيين وعصابات الكذابين، وتغنى به من ورائهم زفة المنافقين، واستقبله، بكل تظاهر بالسذاجة والبراءة، بلهاء المشهد الهزلي الكبير. هذا كلام الانقلابيين ليس عن مصر، بل عن اليمن المعصوف به في عاصفة إقليمية عمياء. فاليمن لا يصح أن يتعرض لانقلاب من هؤلاء المسلحين (وبتحالف مع الجيش وفلول المخلوع)، ولا يمكن أن تسكت الدول التي صنعت في مصر أسوأ انقلاب على الشرعية، إذا حدث في اليمن مثل ذلك... إنها منطقة اللامنطق، وشهادة وفاة العقل العربي، أو على طريقتهم: شهادة انتحاره. تخيل هؤلاء الذين استهانوا بمبدأ الشرعية، ليل نهار، يتحدثون عن الشرعية في اليمن، هل أتوا إلى خطاب الشرعية صاغرين؟ أم أن ذلك لم يكن إلا انتقائية تحت الطلب؟
لا أدري كيف استقبل هؤلاء الذين استهزأوا بفكرة الشرعية ذلك الخطاب الإقليمي والمصري في الأسبوعين الماضيين؟ كيف تفاعلوا مع المنطق وراء ما يسمونها عاصفة الحزم: منطق الشرعية وشن الحرب من أجل الشرعية وضد الانقلاب ولو كان القائم به هو (الجيش) أو قادته الغادرون؟ كيف سيردون على كذابي الإعلاميين الذين يتعجبون من وقوع (انقلاب) في اليمن؟ لماذا لم يعتبروا أن حشود الحوثيين، منذ سبتمبر/أيلول الماضي، والتي اعتصمت ومكثت في الشوارع والميادين وحول المقار الحكومية شهوراً قبل أن تسطو على الدولة، مثل أو أكبر من سهرة 30 /6 التي لم تمكث سوى سويعات، وانفض سامرها مسلماً الثورة والدولة لسطو عسكري، يذيقها الأمرين؟ في ظل استعادة دولة قمعية بوليسية وفاشية عسكرية مستبدة طاغية.
 
لا أدري كيف لم يواجه هؤلاء أنفسهم مواجهة صريحة بأن خطيئتهم الفادحة هي التسوية بين المبادئ التي لا يجوز التهاون فيها والكيانات التي تجسدها التي يمكن الاختلاف معها وعليها، بما لا يهدر المبادئ؛ وفي مقدمتها مبدأ الشرعية (ألا يكون على رأس الدولة في مصر إلا النظام الذي يرضى عنه أغلبية الشعب رضاء حقيقياً واضحاً، لا لبس فيه ولا ادعاء). إلى متى سيمضون في طريقهم، متخلين عن هذا المبدأ؟ وإلى أين سيصلون؟ وكيف سيمكنهم إعادة بناء المستقبل غير صرحاء مع أنفسهم، وغير مجيبين على سؤال (المبادئ)؟ كيف يرون أن الرئيس المعين من الخارج باسم المبادرة الخليجية، وكان من منظومة المخلوع ونائبا له، ولم يحفظ لا ثورة ولا دولة، وجرى إفشاله، فلم ينجز شيئاً، على الرغم من الحوار الوطني والتغيير الدستوري السلمي، أولى بالاستعادة والحرب من أجله، ومن أجل شرعيته المشكوك فيها ممن انقلب عليه الفلول وإعلامهم وقضاؤهم وعسكرهم وشرطتهم ومنافقوهم والبلهاء؟
إنها الشرعية الكاذبة، الشرعية الانقلابية، التي تجعل من الانقلابيين الاستبداديين القمعيين دعاة للديمقراطية ورعاة لحماية الإرادة الشعبية، وتجعل من الفاشلين الفاسدين في الداخل مصلحين لنظام إقليمي، يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتجعل من الحرب العمياء التي تدمر جيشاً عربياً سطا عليه انقلابيون مثلهم عملاً بطوليا لحماية الأمن القومي.
أما تبريرات المنافقين وسكوتهم عن هذه المهزلة، وتصفيقهم لكل كلام خائب، وترويجهم كل وعد كاذب، وتمريرهم الفضائح التي لم يسبق لنظام أو سلطة أن وقع فيها، فحدث عن سماجتهم ولا حرج. لقد سقطوا إلى الدرك الأسفل من التناقض وتزوير الحقائق وخداع الشعوب. فبعد أن قلبوا الموازين، وتلاعبوا بالعقول في مصر، يحاولون، اليوم، تصدير الحول إلى النطاق العربي، وترويج التفكير المنقلب إلى أحزاب الكنبة على نطاق أوسع. لكن هيهات!.. هيهات!
إن البلهاء الببغاوات التي تأبى إلا أن تردد الأكاذيب، وتتسمع للمنافقين، يمرون بمرحلة اعتصار لعقولهم البليدة، وتتعثر ألسنتهم في تكرار هذه الوصلات المتناقضة. من منهم يستطيع، اليوم، أن يدافع عن شيء اسمه (الشرعية)، سواء تعلقت ببلح الشام أو عنب اليمن؟ من منهم يستطيع أن يقول إنه ضد شيء اسمه (الانقلاب العسكري)؟ من منهم يستطيع نسبة الخطيئة لعصابة انقلابية؟ الحمق والتحامق يستعصيان على النزول إلى هذا المستوى المتردي المتهاوي.
حديث الشرعية جد لا هزل، ولا يحتمل الرد أو الرفض، ولا يجوز فيه النقض، الشرعية الحقيقية مبدأ لا شخص، تمرير التفريط فى المبدأ يعني شرعنة الانقلابات، وقيام الجنرالات بجر السلاح أو التلويح به، حينما لا يعجبهم ذلك، وسيتم مصادرة كل حياة سياسية ومدنية، بل ومصادرة مستقبل مصر السياسي والمسار الديمقراطي إلى الأبد، لقد آن الأوان أن تلتقي مطالب الشرعية ومطالب الحرية، كمبادئ أساسية يجب أن تتكامل في إطار يجمع كل رافضي ومقاومي الانقلاب العسكري، حفاظاً على الثورة الحقيقية، ثورة يناير 2011، واستعادةً للشرعية الدستورية المبنية عليها، بغض النظر عن الأشخاص أو القوى أو الأيديولوجيات.
الشرعية الثورية يجب أن تكتمل بشرعية دستوريةٍ، لا تلغيها ولا تنفيها، إنما يتضافر فيها الشارع والشرعية، والضغط والاستجابة، والحماية والرعاية؛ إلى حين تبلغ الثورة مقصدها، وتحقق أهدافها، وتضمن ألا تقع في مصيدة الانقلابات، أو فخاخ الثورة المضادة. ما عدا هذا، فإنها شرعنة الانقلاب: شرعنة مسلحة، شرعنة مزيفة، شرعنة، ملفقة، شرعنة تابعة متسولة.
دار الانقلاب على الشرعية دورة كاملة (360 درجة)، ليصبح شرعية انقلابية يمارسها الأفاكون، ويسوقها المنافقون، ولا تنطلي إلا على أهل البلاهة والعته! أراحنا الله منهم أجمعين.




ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".